دعوة لاوي

يرسم لنا توم رايت Tom Wright صورة واقعيّة لدعوة يسوع للاوي التي نقرأ عنها باقتضاب في مر2: 14، وذلك في كتابه Mark for Everyone، إذ يرى أنّه ثمّة بعض الوظائف في المجتمع التي تستلزم قدرًا من الاحتمال الزائد thick skin، من تلك الوظائف: مُحَصِّل الغرامات (العشّار)، وذلك لأنّه الشخص الذي يواجه الآخرين في حاجتهم وضعفهم وانعدام حيلتهم. هو يقف أمام نداءات الاسترحام دونما استجابة، وصراخ التهديد دونما تأثّر، وتشكّي المتألِّم دونما التفاتة منه. إنّه ببساطة يقوم بعمله، إلاّ أنّ عمله هذا يضعه في مواجهةٍ دائمة مع الآخرين ورفضٍ من المجتمع.

ويتساءل رايت: تخيّل لو أنّ مُحَصِّل الغرامات هذا يعمل لدى حكومة لست راضيًا عنها، أو تريد التخلُّص منها! كم سيكون الشعور بالرفض والنفور له مضاعفًا! تخيّل - بالإضافة إلى ذلك - لو أنّ القوانين لتحصيل الغرامات جديدة، ولست معتادًا عليها! كما سيكون احتجاجك على الأمر عنيفًا. هنا نجد أنّ أوّل مَنْ يتلقَّى موجات الاحتجاج العنيفة هو مُحَصِّل الغرامات والرسوم.

على الأرجح، كان لاوي (متى) يعمل تحت إمرة هيرودس أنتيباس. ومن المعروف أنّه بعد موت هيرودس الكبير حوالي 4 ق.م. تم تقسيم الأراضي التي كان يملك عليها على ثلاثة من أبنائه. أرخيلاوس على اليهوديّة في الجنوب، وأنتيباس على الجليل في الشمال مع بعض الأراضي حول وادي الأردن، وفيليب على الأراضي التي نطلق عليها اليوم مرتفعات الجولان وما وراءها من الأراضي السوريّة. لقد كانت الحدود بين الأراضي التي يحكمها أنتيباس وبين التي يحكمها فيليب هي نهر الأردن. وقد كانت كفرناحوم تقع عند تلك التخوم ما بين الإمارتين إن جاز القول. ومن المرجّح أنّه في تلك البقعة كان يعمل لاوي أيضًا على تحصيل رسوم البضائع والعبور فضلاً عن تحصيل الغرامات كالمعتاد؛ لذا نجد أنّ كلمة عشّار في بعض المواضع ترجمت إلى مُحَصِّل الرّسومtoll collector. إنّ الكلمة اليونانيّة تحمل الدلالة على تحصيل ضرائب غير مباشرة، وخاصّة في إطار نقل البضائع من مكان لآخر. ولعلّ ما يجعل من الأمر مثيرًا لنفور الجموع هو أنّ عمليّة التحصيل بها قدرٌ من التقييم الشخصي. لذا نجد أنّ الربّ يسوع ذات مرّة قد أشار إلى ضرورة عدم المطالبة بأكثر من المفروض (لو3: 13)، كما كانت هناك وشايات يقوم بها المُحَصِّل للحصول على ربحٍ زائد، وهو ما يظهر من كلام زكّا بعد لقائه بالمسيح، وإعلانه أنّه على استعداد أن يرد لمَنْ وشي به أربعة أضعاف (لو19: 8).

من هنا يمكننا أن نتفهّم أنّ النظرة لمُحَصِّل الغرامات / العشَّار في المجتمع اليهودي، وبحسب النظرة الدينيّة اليهوديّة، كانت مماثلة للنظرة التي ينظر بها المجتمع للقتلة وقطاع الطرق (انظر: التلمود البابلي/ المشناه، Mishnah Ned. 3:4). لذا نجد أنّ العديد من الرابيين اليهود كانوا يرون أن توبّه تلك الفئة من المجتمع هي شبه مستحيلة لأنّها فئة موسومة بعدم الصدق والنزاهة، ومن ثمّ لا يمكن الوثوق بها (انظر: التوسفتا Tosephta B. Meṣ 8:26 ). ولعلّ الصورة تتضّح بالأكثر حينما ندرك أنّ مجرّد دخول أحد هؤلاء إلى منزلٍ، يُنَجِّس المنزل (انظر: التلمود البابلي/ المشناه، Mishnah Ṭohar. 7:6).

والآن يمكنك أن تتخيّل ما حدث للاوي وهو يمارس عمله المعتاد في كفرناحوم كمُحَصِّل للغرامات تحت إمرة حكومة مستغلَّة مُتَحَصِّنة بالمُحتل الروماني، وتحت وطأة كراهيّة شعبيّة. وسط تلك الحركة الدائمة والمعتادة للبضائع والأشخاص، ووسط التذمّر المُعْلَن والصامت من ذاك المُحَصِّل المُتَجَمِّد المشاعر، مرَّ يسوع على لاوي دون أن يحمل تجاهه أيّة ضغينة وقد بدا ذلك على وجهه؛ فالوجوه تعبّر عمّا في القلب. لم ينظر إليه بغضبٍ، ولم يلق عليه بجامات الإدانة على عمله، ولم يُهَدِّده إن استمر في العمل، ولم يقدِّم له فتوى دينيّة تفضي بلاشرعيّة العمل، ولم يؤلِّب الجموع ضدّه بإهانته على غلاظة قلبه التي يستلزمها العمل تجاه الذين لم يكونوا يملكون قيمة الغرامات وقد أُلقي القبض عليهم من جرّاء ذلك. لم يفعل يسوع أيًّا من هذا. لم ينظر له كماضٍ أثيم. فقط أشار إليه، وأطلق كلمته المحرّرة: ”اتبعني“، وكأنّ الكلمة كانت صدى لرغبة دفينة صارع من أجلها لاوي ليالي طوالاً ليترك العمل؛ لأنّه لم يعد يحتمل أن يخذل شعبه أكثر من هذا. لم يعد يحتمل الكراهيّة المتراكمة ضدّه. لم يعد يحتمل الكوابيس التي يعاني منها ليلاً، والمفعمة بصراخ الفقراء والمعدمين.

كانت كلمة يسوع له وكأنّها تقول: مكانك ليس ههنا. لم يُقَدِّم له يسوع تصوُّرًا آمنًا في تبعيته على الإطلاق، ولم يتحدّث معه في توفير احتياجاته التي كان قد قَبِلَ عمله لسدادها، ولم يُحَدِّثه عن خُطَط المستقبل. فقط نظر إليه، وفي تلك اللّحظة شعر لاوي أنّه برفقة يسوع سيكون آمنًا. برفقته سيستعيد إنسانيته المفقودة ويعمل لصالح النّاس لا لصالح السلطة على حساب أوجاع النّاس.

حينما نظر إليه يسوع كإنسان وليس كظالمٍ ومُحَصِّل غرامات قاسٍ، استحثَّ فيه إنسانيته التي تُريد أنْ تخرُج إلى النور. نعم، في أغلظ القلوب هناك شعلة خامدة تنتظر من يضرم نيرانها. كانت تلك صناعة الربّ يسوع ومهارته؛ أن يضرم النيران في الفتائل المدخّنة التي لا يراها أحد ليجعل منها منارات على الطريق. ليس أمرًا ميسورًا لمن يعمل لصالح السلطة، أو في حماية الحكم، أو في دائرة الأغلبيّة ذات القوّة أن يترك كلّ هذا ليسير خلف نبي فقير بلا بيت (هكذا كانت صورة يسوع أوّل ما ظهر للجموع).

هنا قوّة الدعوة التي تعلنها كلمات يسوع وصدقها من جهة، والأنين الداخلي الذي يبغي الحريّة في قلب المتلقّي من جهة أخرى. متى التقت كلمات يسوع برغباتنا الصادقة تحرّكنا دونما أسئلة كثيرة، لأنّه وقتها نجد أوّل خيوط المعنى المفقود ونشعر بإنسانيتنا المستلبة تنبض بالحياة. وقتها نبدأ العمل معه لصالح الإنسان المتألِّم، ونسير خلفه في ركب الحقيقة. لا يمكن لشيء أن يوازي لحظة يصير فيها الإنسان إنسانًا برفقة يسوع. أمام تلك اللّحظة تتصاغر كلّ مكاسب الماضي والحاضر وطموح المستقبل.

في الماضي كان لاوي مكروهًا من الشعب، والآن سيكرهه من يكره يسوع! نعم، لن ينعم بمحبَّة الجميع، ولكنّه سيُقَدِّم حُبًّا للجميع، تلك هي رسالة يسوع. إنَّ قوّة الدّعوة ليست في موقف الآخرين منها، وعدد أتباعها، وعدد مقاوميها، ولكن قوّتها فيما تصنعه فينا، في تغييرها لنا من الداخل لنكون بشرًا أفضل. لا تهم النتائج، المهم الماهيّة الجديدة في المسيح يسوع. أن نكون برفقته على الدوام حتى يصيّرنا فيه ويكون هو فينا ولنا الكلّ في الكلّ

قام لاوي وتبعه على الفور ... بينما هناك آلاف الدعاوى يطلقها يسوع لنا وينتظر منّا أنّ نصدقه ونتبعه ...