فوضى التعريفات

يبدو لي أنّ الفوضَى التي تجتاح الفكر في العالم الآن هي ”فوضَى التعريفات“. يرى البعض أنّ الإلحاد هو الفوضَى الأخطر التي تَسْتَبْعِد الله من المعادَلة الإنسانيّة. أتفق جزئيًّا مع خطورة الفكر الإلحادي، ولكني لا أراه الأخطر. يبدو لي أنّ هناك طوفانٌ فوضويٌّ آخر يَتَحَكَّم في المَشْهَد الإنساني حاليًّا، وهو أخطر من الطَرح الإلحادي؛ إنّه فوضَى التعريفات، وخاصّة تعريف ماهيّة الله.

لا يعتنق القطاع الأكبر في العالم الآن الإلحاد كما يَعْتَقِد البعض. العالم في مُعْظَمه كُتْلةٌ دينيّةٌ مُفَتَّتة بين الشعوب. كلّ تكتُّل ديني له ملامح اجتماعيّة خاصّة بخصوصيّة البيئة الفكريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والتعليميّة والسياسيّة في محيطه. المعتقدات كائنة وفاعلة في المجتمعات، مُؤَثِّرة في المجتمعات ومُتَأثِّرة بها في الوقت ذاته. في إحصائيةٍ حول التعداد الديني كانت نسبة اللاَّدينيين في العالم لا تتجاوز 16% من الكتلة السكانيَّة في العالم والمُقَدَّرة بحوالي سبعة مليارات نَسَمَة. علينا أنْ ننتبه إلى أنّ تلك الكتلة مُفتَّتة هي الأخرى ما بين المُلْحدين واللّأدريين (والذين يُمَثِّلون القطاع الأكبر من بين اللاّدينيين). باقي الكتلة السكانيّة هي كتلة دينيّة. في تلك الكتلة، تتباين المعتقدات ما بين المسيحيّة بطوائفها، والإسلام بشيعه، واليهوديّة، والبوذيّة، والسيخ، والكنفوشيّة، والعديد من الديانات الأخرى.

ولكن ما الذي يعنيه هذا؟

إنّه يعني ببساطة أنّ الإشكاليّة الأكبر في العالم والتي يجب أن نُكَرِّس ذواتنا لها كمسيحيين ليست هي محاولة إثبات الوجود الإلهي لمجابهة الخطر الإلحادي! فهذا يجب أنْ يستهلك حوالي 16% من طاقتنا البحثيّة والدراسيّة (بحسب الإحصائيات). لا أقول إنّه يجب أنْ نُهْمِل هذا الأمر. كلاّ، ولكن علينا أنْ نوزِّع جهودنا بما يتناسب مع الاحتياج الحقيقي الواقعي على الأرض. لذا، علينا أن نُكَرِّس الوقت والجهد الأكبر في محاولة التعريف بالله بالشّكل الصحيح. يجب أنْ نُقَدِّم صورة واضحة مُتّسقة متناغمة حيّة نابضة، ولكن صادقة عن الإله الذي نؤمن به.

إنّ دورنا الحيوي والمحوري له نقطة انطلاق. علينا أولاً أنْ نبدأ في التعرُّف على الله ومن ثم تعريفه للعالم. الأمر المؤلِّم أنّه، بين الكُتلة الدينيّة المسيحيّة، لن تجد، عند قطاعٍ كبيرٍ، تصوّرات واضحة عن ماهيّة الله بشكل متّسق! ستجد أنّ ”لاهوت السمع الخامل“ هو الحاكم في تشكيل التصوُّرات .. فما نسمعه هنا وهناك بشكل غير منتظم يرسم ملامح الإله في أذهاننا!!

فيما نُؤكِّد على وجود الله من عدمه، وهو الأمر الضروري والهّام، علينا أن نُركِّز جهودنا لرَسْم ملامح هذا الإله بألوانٍ أكثر تعبيرًا عنه، وليس بألوانٍ تُعَبِّر عنّا نحن!

يمكننا أنْ نشرح ونؤكِّد على وجود الله، ويقتنع مَنْ يتابعوننا ... ثمّ؟!!!

هناك آلاف التصوُّرات عن الآلهة في العالم ... والكثير من التصوُّرات الشخصيّة عن الله في أذهان المسيحيين ...

يمكن أنْ يُؤْمِن المُلْحِد في نهاية الأمر بوجود إله ضابط للكون، ولكن مَنْ هو هذا الإله وسط هذا الخضم الهائل من الآلهة والتصوُّرات عن الآلهة ... هي رحلة تيه!!!

مثل هذا الشخص سيتّجه، على الأرجح، للأدريّة، أي أنّه سيُحَوِّل التساؤل عن الله إلى سؤالٍ هامشيٍّ وعَرَضيٍّ في حياته مقتنعًا أنّه لا توجد إجابة لهذا السؤال ..

لذا، من الهام حينما نُقَدِّم الله أنْ نقدِّمه ”كما هو“، بقدر ما نستطيع، لا كما يرغب المحيطين بنا أنْ يتصوَّرونه أو يُصَوِّرونه. الله الحقيقي هو وحده الذي لديه القدرة الحقيقيّة على تغيير البشر، ولكن حينما نُقَدِّم تصورًا عن الله للآخرين بحسب أهوائنا، ويبدأوا في تبعيّته، لن يجدوا تغييرًا في حياتهم، ممّا سيقودهم للشك في وجود الإله من الأساس، أو قد يميلون للأدريّة ويتجاهلوا قضية البحث عن الله ...

يرى بونهويفر Bonhoeffer (في كتابه: ثمن التبعيّة) أنّ كلمة ”اتبعني“ التي قالها يسوع قد وَجَدَت لها صدى في حياة مَتَّى إذ تَرَكَ موضع الجباية على الفور لا بسبب استعداده ولا قناعته الفكريّة بما يَقُول المُعَلِّم ولكن لأنّ الكلمة ذات فاعليّة إذ أنّها كلمة الربّ الأصيلة؛ ”فالسبب وراء الطّاعة السَّريعة هو يسوع نفسه“ كما يكتب. علينا فقط ألاَّ نعطِّل فعل الكلمة فينا بالتشكيك أو التسويف وهي ستدفعنا في الاتّجاه الصحيح.

لنضمن إيمانًا صادقًا فاعلاً في حياة مَنْ نُعْلِن لهم عن الله، يجب ألاّ يكون تصورنا عن الله مُقَيَّدًا بأصفادنا الثقافيّة ولا مأسورًا في سجون خبراتنا الشخصيَّة؛ الجيّد منها والرديء. إلهنا يجب أنْ يكون أكبر منّا. لن يمكننا أنْ نقوم بتلك المُهِمَّة المُقَدَّسة قبل أنْ نؤمن أنّه علينا أنْ نَتَشَكّل بيده هو أولاً، لا أنْ نُشَكِّله بيدنا نحن! قد ينزعج البعض من فكرة أنّ هناك مَنْ يُشَكِّل الله بيده! معه كلّ الحقّ، هي فكره مزعجة وخطيرة، ولكنّها واقع نَلْمَسه حينما يبدأ الناس في شرح تصوُّرهم عن الله.

من واجبنا أنْ نَسْعَى بكلّ جهدنا للتعرُّف على الله كما يعلن هو ذاته. نراه هو ... نسمعه هو ... نَخْضَع له هو ... نتشكَّل بيده هو ... نَقْبَل ما يقوله هو وإنْ تَحَدَّى مَنْطِقنا ... نَثِق فيما يقول هو وإن كانت لنا خبرات مغايرة ... نَتْبَعَه هو وإنْ لاح الصليبُ في الأُفقِ!!!

لكي نبدأ في التعريف بالله الحقّ ... علينا أنْ نبدأ في التَعَرُّف بحقٍّ على الله ...

لقد كَتَبَ أديب مُصلح في كتابه ”يسوع في إنجيله“ قائلاً: ”لو سَأَلَنا يسوعُ اليوم: ’في نظركم، أفرادًا وجماعات، مَنْ أنا؟‘ لتفادينا الرّد، بمزيجٍ من الكسلِ والخوفِ، خوفٌ من تبيُّن كَمْ يسوع مختلفٌ في أذهان النّاس وقلوبهم، وخوفٌ من أنْ نواجه أنفسنا، فالإجابة الصّادقة على سؤال يسوع، توجب التساؤل عن الذّات. وإنْ كان يسوع لا يهزّنا إلاّ قليلاً، فلأنّنا لا نتساءل عن هويّته، ولأنّنا لا نُعيد النّظر في الصورةِ التي كَوَنَّاها عنه. وإنْ كان لا يُحْدِث فينا سوى تغييرٍ طفيفٍ، فلأنّنا لا نتبيَّن بصراحةٍ ونزاهةٍ، نوع العلاقة التي نعقدها معه.“

لذا علينا أن نصلّي بإخلاصٍ وتضرُّع:

”إلهي، انزع الجلد القديم الذي للطبيعة العتيقة ... انزع كلّ تصوُّر خاطئ عنك ... انزع كلّ رابطة غير مقدّسة ما بين خبراتي الإنسانيّة وطبيعتك الإلهيّة ... عالج مراهقتي الروحيّة التي وضعتك في قالبٍ ليس لك ... اشف كلّ نتائج وتبعات تلك المعرفة ... تعالْ والمس فوضَى الأفكار داخل عقلي المضطرب .. مُرْ الفوضَى لتَسْكُن ... لتُسْتَعْلَن أنت في النسيم الهادئ ... فأتبعك ..“

ومن بعد صحوة إيماننا الشخصي من سباته تبدأ صحوة أخرى؛ صحوة إيماني في الشّرِكَة .. في الكنيسة ... مع إخوتي ...