ما بين الحقيقة والاستعلان في معموديّة يسوع

يمكننا الحديث طويلاً عن هذا الحدث الفارق في إيماننا المسيحي؛ استعلان الثالوث أثناء معموديّة يسوع الناصري، إلاّ أنني أريد أن ألفت النظر إلى حقيقة ضمنيّة في عيد الإبيفانيا Epiphany. هناك دائمًا فارق بين حقيقة الأمر واستعلان حقيقة الأمر. هناك مسافة من الزمن والوعي تفصل بين ما هو كائن وإدراكنا لما (لمن) هو كائن. في معموديّة المسيح لم تبدأ ألوهيّة يسوع الناصري منذ تلك اللّحظة الزمنيّة، ولم يهبط عليه الروح من السماء ليُقَدِّم له ما لم يكن له أو ليحقق فيه ما هو غائب عنه، ولم يتحدّث الآب شاهدًا عنه ليُعَبِّر عن اختيار مفاجئ ليسوع الناصري بسبب التقوى!

كلاّ …

لقد كان يسوع على الدوام هو الله الظاهر في الجسد، هو على الدوام صورة مجده وبهاء رسم أقنومه، هو على الدوام الحكمة الأزلي والمذخر فيه كلّ كنوز العلم والمعرفة، هو على الدوام المرتبط بالآب جوهريًّا … إلاّ أنّ ما حدث في حدث المعموديّة هو استعلان أو كشف لتلك الحقيقة … كشف لما لم يكن ظاهرًا للناس … رفع الغطاء عن مجدٍ لم يلتفت إليه من حوله. يمكننا أن نستشف نفس هذا المفهوم من المعجزات؛ إنّها ليست لحظة حضور قوّة الألوهة في حياة يسوع، ولكنّها كشف للألوهة الصميميَّة في يسوع في لحظة من الزمان. هنا الفارق الجوهري بين الحقيقة واستعلان الحقيقة.


يسوع هو الله حقًّا وإن لم ندرك ذلك في حاضرنا

يسوع مقتدر وإن غاب عن وعينا قدرته 

يسوع حاضر وإن سلكنا في غيمة أشعرتنا بالغياب والوحدة والتخلّي 


ولكن ما دلالة هذا الأمر؟

علينا على الدوام ألاّ نخلط ما بين حقيقة الشيء / الشخص واستعلان حقيقته. فمثلاً، جائزة نوبل لا تصنع أديبًا فذًّا ولكنّها تكشف عن عبقريّة أديب يعمل بالفعل وله انتاج عبر سنواتٍ طوال.

قد يكون حولنا من لم نلتفت إليه يومًا لأنّه يسير كيسوع ما قبل استعلانه، بين البشر، كفرد وسط ملايين البشر … شخص معتاد نراه كلّ صباح …

قد يكون حولنا يسوع في أسمال بالية، أو في لباس معتادٍ، ولا نراه، إذ نتصوَّر يسوع في جلبابه البنّي الداكن بلحيته القصيرة، كما صوّرته لنا الأفلام …

قد يكون حولنا يسوع في وجهٍ لا يخضع لمعايير جمال الجسد، لذا لا نلتفت إليه، إذ نتصوّر يسوع في أيقونته الإيطاليّة البارعة الجمال !!

قد يكون حولنا يسوع متألِّم … مجروح … مهان … مهجَّر … مضطهد، ولا نلقي له بالاً، إذ نتصوّر يسوع الممسك بزمام الأمور، لا المتألِّم بغير الصليب !!

قد يكون حولنا يسوع وهو يدفع كلفة تقواه، ويتأوّه، ونحن لا نصغي، ولا ننتبه …

إنّ عيد الإبيفانيا هو دعوة أن نرى يسوع في كلّ لعازر منطرحًا على نواصي شوارعنا قبل أن يُعْلِنه يسوع مُطوَّبًا في مثلٍ. أصبح في إمكاننا ذلك لأنّ إنجيلاً قد كُتِبَ لنا ليضع علامات الرؤية، ولأنّ إلهًا قد تجسّد وتمجَّد وأرسل لنا روحه القدوس ليساعدنا أن نرى ما لم يمكن ممكنًا أن نراه بدون يسوع.


إنّ الفارق بين الإعلان الإلهي والإعلام المجتمعي هو أنّ الإعلان الإلهي لا يصنع الحدث ولكنّه يكشفه كما هو، إلاّ أنّ الإعلام كثيرًا ما يلقي بالضوء على جزء من الصورة ليصنع حدثًا، يحمل مسحة من الحقيقة وضوءًا من الكاميرات معًا ليشكِّل توجُّهًا ما ..

الإعلام قد يكون كاشف لما هو سلبي من المجتمع، إلاّ أنّ الإعلان الإلهي كاشفٌ للحق، ومداوٍ للزيف في الوقت ذاته.

ولكي ما نتحرَّر من توجيه الإعلام (حتى في لاوعينا) ونصل إلى دائرة الاستعلان الإلهي علينا ألاَّ نقبل بالاعتياد الذي يقتل الحياة فينا رويدًا رويدًا … لا نقبل بالجمود … لا نقبل بسلطة ماضينا على حاضرنا … لا نقبل إلاّ بديناميكيّة الحياة في المسيح وما ينتج عنها من ديناميكيّة فكريّة وسلوكيّة .. لا نقبل بالظاهر من الأشياء … لا نقبل بالحقيقة الراكدة على الشواطئ … لا نقبل بما ينقل إلينا دون أن نختبره على ضوء الصلاة …

إلاّ أنّ البعض قد يرفض تلك الأعين الجديدة لأنه لا يريد أن يغير من رؤيته لما / لمن حوله. الكشف مرهق لمن يريد أن يحيا في خمول أمانه مستندًا على تقوى مُحَدَّدة بأسوارٍ حديديّة، قضبانها ممّا درج على اختباره ومعرفته في الماضي، فقط. ديناميكيّة الملكوت مؤرقة للبعض.

ما حدث على ضفاف الأردن في هذا اليوم يعلمنا أن نستعد على الدوام لأن نقبل بأنّ الجاثي تحت أيدي يوحنّا هو الله الظاهر في الجسد، لكيما نقبل أنّ ما هو إلهي يتلامس مع عالمنا في ما قد نراه معتادًا. ولكن لن يمكننا أن ننال تلك النعمة بعيدًا عن الصلاة المستمرة والتي يعاد فيها تجديد أبعاد العدسات الوجوديّة التي نطالع من خلالها الأشخاص والأحداث والمواقف.


إنّ حدث الإبيفانيا دعوةً لكيما نكتشف أهميّة مفهوم الاستعلان الإلهي،

إنها رسالة مفادها؛

انظروا الحقّ، فهو كائن معنا، ولا تنتظروا لمن يلقي بالضوء عليه، إذ يمكنكم أن تكتشفونه حينما تطلبوا البصيرة من الأعالي والنور من العَلي …

لتروا الحقيقة …