لقد احترفنا التغنّي بالإيمان ونَظْم التسابيح والتراتيل عن الإيمان، إلاّ أنّ كلمة ”أؤمن“ الشخصيّة يبدو أنّها من الكلمات التائهة عن مفردات الكثير من الناس الآن.
من السهل أنْ أُعْلِنُ إيماني بأمورٍ لا تَمَسّني بشكلٍ شخصي، وفي هذا انفلاتٌ من المواجهة. هناك مَنْ يكتفي بأنْ يؤمن بأنّ الله موجود، وآخر يتحرّك خطوة للأمام ليُعْلِن أنّ الله صالح، وهناك مَنْ يَتَقَدَّم في الإعلان ليقول إنّه محبّ ورحوم، ويقف آخر أمام الله ليُعْلِن أنّه يؤمن بأنّه عادل، وهناك مَنْ يكتفي بترديد صيغ إيمانيّة تختص بعقائد آمنت بها الكنيسة عبر العصور ... إلخ، إلاّ أنّ التحدّي الأعظم هو أنْ يكون هذا الإيمان مُشَكِّلاً لحياتي ومواقفي الأخلاقيّة ومبادئي بشكلٍ مستمرٍ. أنْ يكون هناك تناغم بين ما أؤمن به وما أحياه، أمرٌ نادرُ الحدوث في هذه الأيام، لأننا لا نواجه إيماننا الشخصي في الحضور الإلهي (الصلاة) بالشكل الكافي.
في ليتورجيّة العِمَاد يقف المُعَمَّد ليقول: ”أؤمن بإلهٍ واحدٍ..“. الإيمان يجب أنْ يُعْلَن بشكلٍ شخصيٍّ قبل أنْ يدخل المرء في الإفخارستيا ويُشَارِك المُصَلِّين الإيمان الجَمْعي ويقول معهم: ”نؤمن بإلهٍ واحدٍ..“. إيماننا الشخصي هو ما نحمله معنا للجماعة حينما نُصَلِّي معًا ليكون إيمان الجماعة المُصَليَّة مُشْتَعِل من مَوقد إيمانِ كلّ عضوٍ فيها والمضطرم بالنّار الإلهيّة. قبل أنْ تُعْلِن إيمانًا مع أخوتك يجب أنْ يكون إيمانًا شخصيًّا لك، هذا هو الدّرس الليتورجي لنا. ولكن هذا الإيمان العَام يجب أنْ يُترجَم إيمانًا حياتيًّا بوجود هذا الإله الواحد في الواقع اليومي الذي تحياه بما فيه من تحديات وصِعَاب.
إبّان الثورة الثقافية التي اجتاحت الصين واستهدفت المسيحيّة والمسيحيين في مستهل القرن العشرين، نقرأ عن مقتل آلاف المسيحيين، إلاّ أنّ الأمر الذي نحتاج أن نتوقّف عنده هو حياة مَنْ عاشوا في تلك الفترة وعانوا من” اضطهادٍ ناعمٍ“ إن جاز القول.
نقرأ عن تلك الطبيبة التي رفضت الانضمام للحزب الشيوعي واستمرَّت في الإخلاص لمسيحها. لقد استيقظت ذات يومٍ على يد أربعة ممرضات وقد جذبنها بعنفٍ على الأرض وساروا بها في مهانةٍ شديدةٍ تجاه المستشفى التي تَعْمَل بها. إمعانًا في المهانة توقّفوا عند حلاّقٍ وحلقوا لها نصف شعرها، وجذبوها جذبًا بطريقة قاسية حتى وصلوا إلى المستشفى. هناك طالبوها بإنكار إيمانها والانضمام للحزب الشيوعي! ما كان منها إلاّ أنْ أعلنت: لا أستطيع أنْ أنكر يسوع، أنا أحبّ يسوع. على الفور، حينما سمعوا الاسم، انهالوا عليها بالشتائم وطرحوها أرضًا. إمعانًا في المذلّة، تحوّلت من طبيبة في المستشفى إلى عاملة نظافة في نفس المستشفى لمدّة 11 عام، كانت تنظّف فيها الأرضيات والمراحيض. انخفض راتبها بكلّ تأكيد، واجبرت على أن تشتري أدوات النظافة من مرتبها المحدود.
إنّ أهميّة هذا المثال هو كيفيّة الصمود في الثقة بأنّ الله حاضر وصالح ورحوم ومحبّ وعادل بالرغم ممّا تعانيه بشكل يومي لمدّة 11 عام. لقد كانت تترنَّم وهي تميل على الأرضيات لتُنَظِّفها، بل وكانت تفخر بأنّ المستشفى هي الأنظف في الصين كلّها!
من السهل الانفلات من ضرورة مواجهة إيماننا حينما نتحدّث عن الاستشهاد إذ أنّ الأمر هو قرارٌ يَتَّخِذَه المرء مرّة واحدة ثم يموت وينتهي الأمر، إلاّ أنّه من الصعب تجديد هذا القرار بشكل يومي لسنوات عديدة، مع حركة الحياة المعتادة، ورؤية أنّ الأمور لا تسير في مسارها الصحيح، وأنّ الظلم يتزايد، وأنّه لا أمل في تغيير الأمور. هنا يجب أنْ نَتَوَقَّف لأنّ مثل هذا الإيمان أصيل. إنّه إيمان ”بالرغم من“ التحديات، لا ”بسبب“ العطايا والهبات. تلك من سمات الإيمان الشخصي أي الإيمان الصادق بحضور وفاعليَّة شخص الله في المسيح يسوع في حياتي الخاصّة بالرغم ممّا يبدو من الظاهر. إنّ طريق الإماتة النُّسكي لدى آبائنا يستند على تلك الحقيقة؛ أنّ الإيمان يجب أنْ يكون فاعل ومثمر بشكل يومي. لذا فإنّ العمل النّسكي أطلق عليه البعض الشّهادة البيضاء أي بدون سفك دم.
بالتأكيد نحن نحتاج لخبرات نصرة إلهيّة واضحة على الطريق ليُبْنَى إيماننا، ولكن علينا أنْ ندرك في الوقت ذاته أنّ مشهد الانتصار الخارجي (نصرة الخير على الشرّ في العالم الآن) لا يجب أنْ يُشَكِّل الأساس من الإيمان. أساس الإيمان مرتبط بمَنْ انتصر لنا. تكفي نصرة يسوع بالقيامة من الأموات ليبدأ إيماني.
لقد أَنَّ الله من شعبه قديمًا حينما لم يؤمنوا بإمكانية الدخول لأرض كنعان. رأى عشرة من أولئك الذين أرسلهم موسى ليستطلعوا الأرض أنّ اقتحامها يبدو مستحيلاً. لقد أفاضوا في شرح كيف أنّ الشعب الساكن ذو بأسٍ، وأنّهم طوال القّامة، وأنّ المُدنَ حصينةٌ للغاية ويصعب اقتحامها، وأنّ بني عناق لهم تواجد فعّال هناك، فضلاً عن وجود عدّة شعوب لن يمكنهم محاربتها جميعًا كالعمالقة والحثيين واليبوسيين والكنعانيين. وهناك أيضًا الجبابرة الذين نظروا إليهم كالجراد الصغير الذي لا قيمة له. لقد خلصوا إلى نتيجة مفادها أنّه لا يجب الصعود لأنّ مثل تلك الحرب خاسرة لا محالة.
في المقابل، نجد أنَّ كالب ويشوع رأيا أنّه يجب أنْ تصعد الجماعة على الفور لامتلاكها لأنّ بني إسرائيل قادرون على هذا الأمر. لقد كلّما الشعب قائلين إنّ تلك الأمم ”قَدْ زَالَ عَنْهُمْ ظِلُّهُمْ (أمانهم)، وَالرَّبُّ مَعَنَا. لاَ تَخَافُوهُمْ“ (عد14: 9).
تَبَنَّت الجماعة رأي العشرة المنطقي! وقد تناسوا أنّ كلّ قصة ارتحالهم تجاوزت المنطق بدءًا من الخروج المُعْجِز وحتى وقوفهم على أعتاب أرض الموعد. لقد كانت كلمات الله لموسى والمفعمة بالألم أنّ هذا الشعب قد جرّبه عشر مرات ولكنّهم مازالوا يتعثرون في الإيمان، ولا يستمعوا لقول الله (انظر: عد14: 22).
من السهل أنْ تَهْتِف أنّ الله صالح وتترنّم بصلاحه وتنشد مع الكنيسة في التسابيح المسائيّة أنّه صالح وأنّ إلى الأبد رحمته، ولكن من الصعب للغاية أنْ تقول إنّك تؤمن أنّه صالح حينما ترسب في امتحانٍ ما، أو تُرْفَض تأشيرة سفرك، أو لا تحصل على المجموع الذي كنت تطمح فيه لتدخل إلى الكلّية التي طالما حلمت بها، أو لا تُقْبَل كطالب رهبنة في ديرٍ أحببته، أو حينما تُرْفَضْ إذا تَقَدْمت لخطبة فتاة أحلامك، أو حينما تمرّ الأيام وتتراجع فرص الزواج لديكِ، أو حينما تتضاءل فرص الانجاب، أو حينما تفقد شخصًا عزيزًا على قلبك بالموت، أو حينما تتعرّض لسرقة، أو حينما تتعرّض لظلمٍ بيّن في عملك ... إلخ.
في كلّ تلك الحالات ستجد أنّ كلمة ”أؤمن“ متحجّرة لا تريد أنْ تطاوع الروح لتعلن عن إيمانٍ بتبعيتك لله الصالح بالرغم من عدم حصولك على ما تتمناه.
قد تتساءل، وما العلاقة بين طموحاتي والله؟
حسنًا، الكثير من الناس يربطون الله بما يأملون فيه، ويكون صلاحه رهن تحقيق رغباتهم، وإذ لم يحصلوا على ما يريدون (بالرغم من الصلاة) تبدأ رُحَى الشك تطحن إيمانهم في صلاح الله، وتبدأ رحلة اللاّمبالاة بالحياة الروحيّة إجمالاً، ويبدأ المرء في فقدان مذاقة الحضور الإلهي، بل والتشكّك إنْ كان ثمّة حضور إلهي من الأساس من عدمه، فكلّ شيء يصبح على المحك لأنّ الله (الصالح) لم يحقق لي ما كنت أطمح فيه!!
الكثير من حالات اللاّمبالاة الروحيّة يكمن ورائها شعور بخيبة الأمل في تصوُّر المرء عن صلاح الله، وإنْ كانت خيبة أمل مكتومة لا يريد أنْ يشارك بها أحد!
يجب علينا أنْ نستدعي إيمانًا مُتَّزِنًا لا يُقَايض طبيعة الله برغباتنا. لا يجب أنْ أنزع عن الله الصلاح لأنّي لم أنل ما كنت أظنه صالحٌ لي.
هذا يعود بنا إلى الوراء خطوة، إذ عليَّ أنْ أتساءل: هل أؤمن حقًّا بأنّه الله يملك رؤية وبصيرة أشمل من رؤيتي وبصيرتي؟ قد تكون الإجابة النظرية نعم، ولكن الإجابة العمليّة: لا. وهنا عليّ أنْ أسأل ذاتي السؤال التالي: هل أؤمن حقًّا أنّ الله يحبّني بشكل شخصي أم أنني واحد من ملايين البشر ممّن قام بعملٍ ما لينجيهم من الهلاك دون أنْ يعبأ بالتواصل الشخصي وتأكيد حبّه لي؟
إني أرى أنّ نداء الله على شاول الطرسوسي؛ ”شاول شاول“، حينما كان على الطريق إلى دمشق له وقع خاص ساحر، إذ أنّه يتحّدث إليه بشكل شخصي، يناديه باسمه، يتابع ما يقوم به ... هو يهتم بكلّ واحدٍ منّا بشكلٍ يفوق تصورنا البشري المحدود. أعرف قصصًا يندى لها الجبين من تعاملات الله مع تفاصيل الحياة الدقيقة، بل والهامشيّة أحيانًا مع مَنْ يسيرون معه. صلاح الله ليس شعارًا ولكنّه خبرة أدركها الكثيرون بشكل لا يقبل الالتباس.
عليك إذًا حَسْم هذيْن السؤاليْن بشكلٍ أساسيٍّ في حياتك. إنْ لم تحسمهم بصدقٍ، وإنْ كانت تلك التساؤلات مازالت تدور في ذهنك على الدوام، عليك بالصلاة باستمرار، دونما يأسٍ، دونما مللٍ. عليك بالطلب أنْ يُؤَكِّد الله على صلاحه لك بعيدًا عن دوائر أنانيتك. طالبه بأنْ يؤكِّد لك على الدوام وبشكل شخصي أنّك موضع عنايته ومحبته. استمر في الصلاة، وتيقَّظ إلى الاستجابة والتي قد لا تكون معتادة. ما أكثر الصلوات التي يستجيب الله لها، ولكنّنا بسبب توقعاتنا النمطيّة عن الاستجابة لا نراها ولا نسمعها!