وجود الله، البحث عن دليل

في مناظرة ما بين William Lane Craig و Walter Sinnott-Armstrong، تم طباعتها في كتاب بعنوان God, A Debate between A Christian and an Atheist قدّم الأخير طرحًا جدليًّا تحت مُسمّى The Argument from Ignorance مشيرًا إلى عدم وجود أدلّة ماديّة تؤكِّد على وجود خالق ممّا يجعل من هذا الأمر سَنَدًا لرفض إمكانيّة هذا الوجود.

هذا الطرح مفاده أنّ الله كان يمكنه في تصميم الكون أن يقدّم حجة ماديّة واضحة غير ملتبسة تشهد أنّه الخالق بدلاً من كلّ هذا الجدل حول وجوده وذلك لأنّه لامرئي!

يبدو هذا الطرح منطقيًّا لأوّل وهلة. تماهَى Craig مع هذا السيناريو ليصل إلى نقطة مُحَدَّدة تُبْرِز خطأ هذا التفكير. أشار Craig إلى أنّ الله كان يمكنه بالفعل - وهو يملك القدرة على ذلك - أنّ يعلن عن ذاته في كل خلية من خلايا الإنسان، كأنّ يكتب عليها مثلاً ”صناعة إلهيّة“ أو ما شابه، أو أن يقوم بتصميم صليب نوراني كبير في السماء يتواجد بشكل دائم، أو غيرها من التصورات التي يراها اللاَّدينيون كفيلة بإنهاء الصراع حول حقيقة وجود الله من خلال وجود دليل مادي يمكن قياسه والاستدلال به.

ثم بدأ Craig يتساءل: هل هذا هو الحل؟ هل هذا الأمر كفيل بحسم هذه الجدليّة غير المنتهيّة ما بين المؤمنين بوجود إله ومن ينكرون وجود هذا الإله؟

الإجابة: لا ...

إنّ مثل هذا الحلّ يشير فقط إلى وجود كيان / شخص / قّوة تسمى الله، وهذا الشخص أو تلك القوّة هي خالقة / صانعة، ولكنّه لا يُقَدِّم تَصَوُّرًا حول ماهيّة هذا الإله؛ مَنْ هو؟ ما هي طباعه؟ ما هي علاقته بالبشر؟ هل هو محب أم منتقم؟ هل هو قريب أم بعيد؟ هل هو مبالٍ بالخليقة أم غير مبالٍ؟ هل خلقنا من العدم أم من مادّة أولى؟ هل يوجد آلهة أخرى في الكون أم إنّه الإله الوحيد؟

تساؤلات كثيرة حول هويّة هذا الإله ستنشأ بالضرورة، وستفتح المجال للتأويل الإنساني والجدل الإنساني اللاّمنتهي الذي يبحث عن دائرة مفرغة ليلقي بنفسه في خضم تساؤلاتها. هنا سينتقل مركز الجدل من وجود الإله من عدمه إلى طبيعة هذا الإله، وقدرة هذا الإله، ودور هذا الإله في الكون، وعلاقة هذا الإله بالخليقة، وسيتخلّق تيارًا يملك من الأدلّة الماديّة ما يشير إلى وجود إله، ولكنه لا يتبع هذا الإله! لأنّه قد لا يتوافق معه! لا يقبل سيادته! يتمرّد على تدبيره! ... إلخ.

إنّ هذا النمط من الإيمان بوجود إله كفكرة عامّة أو كحقيقة عامّة وغير شخصيّة أشبه بإيمان الشياطين. لا أقصد هنا إهانة على الإطلاق، ولكن الكتاب المقدّس يرصد لنا أنّ للشياطين إيمانًا؛ فهم ”يؤمنون ويقشعرون“ (يع2: 19). هو إيمان نظري، عام، دون أنْ يُشَكّل أيّة علاقة بين الإله والكائن المخلوق. إنّ هذا النمط من الإيمان يختلف تمامًا عن مطلب المسيح من كلّ مَنْ كان يلتقيه. الإيمان الذي كان يهتم الربّ يسوع بأن يراه ويرصده، لم يكن هو الإيمان/الفكرة أو الإيمان/التعبير اللّغوي، ولكنّه الإيمان العلاقاتي، أو الإيمان الذي يفضي إلى قرار، أو الإيمان الذي يتولَّد من رَحِمَه صِلة، أو الإيمان الذي يستتبعه تبعية ... إلخ.

لقد أصاب Craig حينما أشار إلى أنّ الكتاب المقدّس كان معنيًّا بتعاملات الله مع البشر، وأنّ تلك العلاقة كانت تتوطّد في الكيان الإنساني بشكل مستمر ومطرد.

لذا فالكتاب المقدّس لا يهدف بشكل أساسي إلى تقديم أدلّة منهجيّة ماديّة حول حقيقة وجود الله، ولكن يبدأ من بديهة وجود الله ليشير إلى طبيعة هذا الإله وتعاملاته مع شعبه. لقد استخدم Craig كلمة رائعة في هذا الوصف وهي interiorization وهي تشير إلى أنّ الإيمان بشكل عام يتوطّن وينمو في الداخل، يمثل نسيجًا داخليًّا في إنساننا الجديد الذي ينمو يومًا بعد يوم. هو يحوّل السلوك والأفكار والمبادئ لإنساننا الداخلي لتكون معبِّرة عن هويته الجديدة. هو ليس فقط قناعة بفكرة خارجيّة عامّة نظريّة؛ إذ قد تُحْسَم هذه النقطة، ولكن سيتخلّق وراءها مئات الطروحات والجدليات الأخرى، والتي ستفضي في النهاية إلى رفض هذا الإله لمَنْ يرغب في أن يكون في حالة خصومة مع كيانٍ أكبر منه على الدوام.

كان من الممكن أن يقوم الله بالفعل بإظهار دلالة ماديّة مباشرة يعلن فيها أنّه موجود وأنّه الخالق، ولكن لأنّه أدرى بالبشر منّا! فهو يدرك أنّ هذا لن يحلّ قضيّة الإنسان في علاقته مع الله.

الحلّ الحاسم هو ˮالتجسُّد“. ليس التجسُّد بمثابة إعلان أنّه ثمّة إله في هذا الكون، ولكنّ التجسُّد هو إعلان ماهيّة هذا الإله للإنسانيّة. إنّ الربّ يسوع يأخذنا لخطوة أعمق من طموحاتنا الجدليّة حول وجود الإله من عدمه، وهي القدرة على التلامس مع هذا الإله في الواقع الإنساني. ولهذا هو لم يظهر للبشر في صورة رمزيّة بين الآن والآخر؛ لأنّ هذا الأمر ليس كفيلًا بإعلان ماهيّة الإله، ولكنّه شابهنا في كلّ شيء دونما خطيّة، اتّخذ جسدًا حقيقيًّا، عاش إنسانيّة كاملة غير منقوصة، عانى بشريًّا من كلّ ما يعاني منه البشر، ليعلن عن إله قريب، وعن إمكانيّة، في هذا الإله القريب، للإنسان أن يحيا حياة إلهيّة؛ أي حياة نبعها ومصدرها وقوّتها ومآلها في الله.

من الضروري حينما نفكّر في الحوار مع الآخرين ألاّ نتوقّف عند ما يقولونه فقط؛ لأنّه قد يكون مدخلاً إلى سلسلة لا تنتهي من الجدليات اللاّحقة التي تستنفذ الحياة. ليس معنى هذا ألاّ نكون جادين في الإجابة على التساؤل، كلا بالطبع، إذ إنّه من المهم أن نجيب، على أن تكون إجابتنا من نسيج رؤيتنا الشاملة لمن نؤمن به، فلا نقدّم لهم براهين مجرَّدة لوجود إلهٍ ما، لأنّ هذا لن يصل بنا إلى شيء، ولكن من الضروري أنّ نقدّم دلائل على وجود إله ظهر لنا متجسِّدًا في يسوع المسيح ليعلن لنا ماهيّة حقيقيّة لذاك الذي هو أصل كلّ الأشياء وبه كلّ الأشياء وإليه تؤول كلّ الأشياء.