قانون الحرب وقانون الإنسانية

في خبرةٍ قَصَّها أحدُ الجنودِ الأمريكيين الذين كانوا يُحاربون في العراق، وذلك أثناء اقتحامه وكرًا يضم بعض الأعداء، يقول:

إنّها تلك اللّحظة، والتي ستظل عالقة بذهني ما حييت، حينما نَظَرَ إليَّ والتَقَت عينانا. في تلك اللّحظة استشعرت أنّ كلّ شيءٍ آخر قد تلاشى .. خَفُتَت الأصوات .. لم يبقَ سوى شخصيْن ينظران بعضهما للبعض في صميم الأعين. في تلك اللَّحظة حَدَثَ تواصلٌ ما بين كائنيْن إنسانييْن في حدثٍ يَتَعَدَّى قدراتنا في السيطرة على الموقف. في تلك اللَّحظة لم أنظر إليه لكونه إرهابيًّا من العراق، لقد رأيت فقط رجلاً خائفًا مرتاعًا يطلب مني العون والمساعدة. من تلك اللَّحظة تَغَيَّرت معنَى الحرب بالنسبة لي، لقد أصبحت لي أكثر رعبًا؛ إذ أصبحتُ أتساءل حول القرارات بشكلٍ أكبر، بسبب تلك الحادثة. لقد وضعت الحادثة وجهًا لما أفعل؛ وجه رجلٍ هَلِعٍ باكٍ وهو ما يُمْكِن أنْ يكون أي شخصٍ أو كلُّ شخصٍ في المعركة.

في قانون الحروب - للأسف - هناك انحيازٌ مُسْبَق يسعَى لوَصْم الآخر بما يُتيح قتله في المعركة بدمٍ بارد. لو تعامل البشر بعضهم مع البعض ككائنات إنسانيّة لهم آباء وأبناء وأفكار وأحلام وتطلُّعات وآمال ومحاسن ومساوئ ... إلخ، لما أَمْكَن للإنسان أنْ يَقْتُلَ في وقت المعركة، وذلك لأنّه سيُفَكِّر كثيرًا قبل أنْ يُقَرِّر إنهاء حياة الإنسان الذي أمامه. يجب أنْ يصير الآخر شيطانًا حتى يمكن قتله دونما تأنيب ضميرٍ أو شعورٍ بأنّ المرء يقترف جُرْمًا.

نقرأ عن حروب الإبادة التي كانت بين قبيلتي التوتسي Tutsi والهوتو Hutu في رواندا، والتي راح ضحيتها مائة ألف شخص في مائة يوم وتم تهجير حوالي 2 مليون منهم، وذلك منذ سنوات قليلة مضت، في القرن العشرين (من 7 أبريل - 15 يوليو1994م)، إنّ القتل للأطفال والنساء والمسنين والرجال كان على الهَويَّة. إنّ القاعدة التي يتَحَرَّك من خلالها مثل هذا النزاع هي أنّه يجب أنْ يتم تصوير الآخر أنّه بمثابة شيطان حتى يُمكن للمرء أنْ يستشعر أنّه يقوم بعملٍ مُقَدَّس وهو يُطَهِّر الأرض من هذا الشيطان. تمتد تلك الخديعة لدوائر العلاقات الإنسانيّة، والتي تَتَّخِذ من مبادئ الحرب اللاّإنسانيّة واللاّأخلاقيّة قانونًا لإبادة الآخر؛ سواء كان معنويًّا أو مجتمعيًّا أو أخلاقيًّا أو دينيًّا أو عرقيًّا أو جنسيًّا! القانون واحدٌ، وإن تعدّدت تطبيقاته. يجب أنْ يصير الآخر شيطانًا؛ حتى يستشعر الإنسان الذي يقتل ويغتال ويبيد أنّه يَعْمَل العَمَل المُقَدَّس، وأنّ المجتمع أو القبيلة أو الجماعة ستكون أفضل من جرّاء تضحيته الكبرى، وهو يقتل ويذبح ويهلك ويغتال الآخر؛ ”الشيطان“.

في عالمنا الحديث، يُساعِد الإعلام ومَنَصَّات التواصل الاجتماعي على أداء تلك المهمّة. ليس عجبًا أن نرى تجنيد الكثيرين لاعتناق الفكر الداعشي الدموي من خلال المواد الإعلاميّة التي يتم تسجيلها ومن خلال صفحات التواصل الاجتماعي التي تُلقي ببذار شيطنة الآخر حتى يمكن أن تُثْمِر في القلوب الضعيفة، والعقول المُفْتَقِرة للفِكر والحُجَّة، والنفوس المجروحة، والحيوات التي بلا معنى ولا قيمة ... إلخ.

ولكن، حينما يقف الإنسان أمام ذاك الذي رَسَمَ له من قبل، في ذهنه، صورةً شيطانيّةً، وجهًا لوجه، وتتلاقَى الأعين معًا، في لحظة من لحظات الحقيقة، يمكن للإنسان أنْ يكتشف الخديعة. وقتها سيُدْرِك الإنسان أنّه ليس بصدد ”شيطان“، ولكنّه أمام ”إنسان“، قد يكون مختلفًا، ولكنّه إنسان. أمام التلاقي الإنساني - الإنساني يمكن للبشر أنْ يُدْركوا المُشْتَرَك فيما بينهم، يمكن للصورة الذهنيّة التي حَفَرَتها حِرَاب الكراهيّة والأُحاديَّة البغيضة أنْ تَقِف مُدانةً أمام محكمة الضمير الصارخ المنادي بحقّ الإنسان في الوجود.

إنّ إيماننا المسيحي في العلاقات الإنسانيّة مبني على إدراكنا للخيط الإنساني الأوّل الذي خاطته اليد الإلهيّة في كينونتنا؛ أنّنا على صورة الله ومثاله؛ ”فَخَلَقَ الله الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ.“ (تك1: 27). إنّ المخلوق على صورة الله هو الإنسان، قبل أي تصنيف عرقي، لوني، جنسي، طبقي، اجتماعي، معرفي .. إلخ. الإنسانيّة في أصلها تحمل قَبسًا من الضياء الإلهي.

إنّ التلاقي المُنْفَتِح مع الآخر يُمَكِّنَني من أنْ أُعاين فيه صورة الله ومثاله (وإن تشوّهت)، وأتبنّى آليات الحوار والتفكير والعمل المشترك والقبول بالاختلاف. علينا أنْ نُفَكِّر كيف يتعامل الله مع البشريَّة المُخالِفة له في الكثير من الأحيان. لو تعامل الله معنا بآليات تعاملنا بعضنا مع البعض، لأبادنا مرّة واحدة وإلى الأبد. وجودنا رغم أخطائنا وخطايانا، جهلنا وغربتنا عنه، تمرُّدنا عليه ورفضنا له، يُؤَكِّد لنا أنّ الله يُريد أنْ يُنادي فينا بأنَّ قبول وجود الآخر المختلف ليس ضعفًا. قبول الله لوجود المخالفين وغير الطائعين له يُعَرِّفنا بمَنْ هو الله الذي يمتلك قدرة وسلطة مطلقة، ولكنّه يمنح حُريَّة حقيقيَّة للإنسان، ذلك من جهة، كما أنّ ذلك القبول يمنح للإنسان فرصة الوصول إلى الحقيقة بعيدًا عن قمع القوّة من جهة أخرى. الله يريد للبشر أنْ يَصِلوا للحقيقة بحريَّة؛ لأنّ الحقّ لا يمكن أنْ ينبت من أرضٍ قد جَرَّفها الخوف والهلع. الحقّ والحريّة وجهان لعملة واحدة.

إنّ علم التربية يؤكِّد أنّ القيم التي يتم زرعها في نفوس الأطفال الصغار بالخوف لن تستمر، بل على العكس، إنّها أقرب للتحوُّل إلى حالة من التمرُّد؛ لأنّ تلك القيم ارتبطت في اللاّوعي بسياط مُلاحقة الحريّة. في الدوائر المسيحيّة، الكثيرون يخافون من الحريّة بسبب ما يرونه من انفلات فكري، إيماني، أخلاقي، قانوني ... إلخ، معهم الحقّ في ذلك. ولكن ليس البديل هو وأد الحريّة في قبر القمع الفكري والمجتمعي، ولكن محاولة ضبط إيقاعها من خلال تصرفاتنا نحن كمسيحيين.

إنْ رأَى العالم فينا حريّة متّزنة معتدلة محاورة مجاورة ملاطفة مشاركة آمنة أمينة، أَمَنَ العالم لما نقول وأعارنا أذنه بإخلاصٍ، والباقي هو دور الروح والكلمة في أنْ تُثْمِر حقًّا في القلوب. دورنا ألاّ نَدْفَع العالم بعيدًا عن الحقِ بسلوكٍ استعلائيٍّ وبخطابٍ إقصائيٍّ وبحريّةٍ مُنْتَهَكةٍ مَهيضة الجناح. دورنا هو أنْ نفتح أبوابنا وقلوبنا وننادي في العالم بصدق:

هنا الحريّة الحقّة .. لأنّ هنا المسيح الحقّ ...