ذكريات على شاطئ الإسكندرية

أمام ذاك البحر المترامي الأطراف الذي يحتك بالأفق ويصبغه بزرقته الداكنة جَلَسَ رجلٌ بدت عليه أمارات التعب، وتصببت من جبهته قطرات العرق الكثيف. خلع عنه عباءته الفضفاضة بالرغم من حملات الهواء المطردة التي تحملها الأمواج على أكتافها البيضاء. كان الجو ساخنًا، والرطوبة متزايدة في هذا اليوم. كانت جلسته تنم عن إنهاكٍ فقد دقّت مطرقة الإجهاد على جسده الوهِن ولم تترك بقعةً فيه إلاّ وختمتها بالألم.

أمام أمواج البحر بدأ يتذكّر رحلته الطويلة منذ أن وطأت أقدامه أوّل مرّة تلك المدينة؛ الإسكندريّة. شعر بالامتنان الشديد لله الذي رافقه في تلك الرّحلة التي لم يحمل فيها سوى الرّجاء والإيمان؛ إذ قد عاين عمل الله في كلّ المواضع التي خدم فيها من قبل برفقة الرّسل سواء بولس أو بطرس؛ سواء وسط يهود الشتات أو وسط الأمم. في رحلاته الأُوَل كانت النقلة من أورشليم، تلك المدينة ذات التقليد الضارب في الجذور من جهة الإيمان بالله؛ يهوه، إلى تلك المدن الصاخبة بأفكارها البرّاقة وآلهتها المتعدِّدة ليس بالأمر اليسير. ما بين أورشليم والجليل، مرورًا بأنطاكية وسلاميس وبافوس وقبرص، وصولاً إلى أتاليا وبرجه وكولوسي وروما والمدن الخمس الشرقية، وأخيرًا ها هو مرّة أخرى في الإسكندريّة. كانت الذكريات محمّلة بالكثير من الصور للرحلات المتعسّرة التي لاقتهم فيها صعوبات جمّة، إذ اصطدمت البشارة في الكثير من البلدان بلامبالاة وقساوة وصلابة قلب من البعض. لقد تذكّر كَمْ كان هذا الأمر محبّطًا؛ إذ بعد عناء السفر في البحار وما تحمله من أخطار لم توجد آذان كافية لاستقبال البشارة في بعض المواضع، ولكن الله يعرف الذين هم له. لم تكن سُحُب الإحباط المرتحلة في سماء الذكريات هي كلّ شيء، بل على العكس من ذلك؛ فالخبرات الإيمانيّة التي بدأت تبرق، أضاءت في سماء ذهنه. كما كان الله أمينًا للغاية، تلك كانت المشاعر التي تجتاحه بالفعل. كَمْ كانت هناك نفوس جائعة للحقيقة ومتعطّشة للخلاص ومُهيّأة لاستقبال البشرى بيسوع. آه، كم تحمّلوا من ضيقات من أجل تبعيتهم له، ولكنّ الفرح كان يرافقهم في كلّ ضيقاتهم.

مرّ من أمامه رجلٌ يقفز، وكأنّه يحاول تلاشي نتوءات صخور الشاطئ بينما الأمواج تلاحقة برذاذها اللّطيف، وكأنّها تداعبه في الصباح الباكر. يبدو أنّ صندله الجلدي تمزّق من الصخور الحادة. التقط الرّجل الصندل المقطوع في يديه وسار عاري القدمين.

ذَكَّرَه المشهد بأوّل مرة يأتي فيها إلى الإسكندريّة، وهو لا يعرف أحدًا، وليس هناك ثمّة تصّور لكيفيّة إطلاق بشارة الإنجيل في تلك المدينة العظيمة.

ارتسمت بسمة على وجهه وهو يتذكّر صندله الجلدي الذي تآكل من إنهاك السّفر، وأبى إلاّ أن يتمرّد على هذا الجهد الزائد. تذكّر كم شعر بالحيرة حينها بعد يومٍ طويل من السير في طرقات المدينة، وهو يصلي، ولم يجد بابًا مهيّئًا لسماع البشرى! وبينما هو يسير وجد حانوتًا لإسكافيٍّ، فقرّر أن يعرج عليه ليصلح الصندل وبعدها يبحث عن مأوى لينهي يومًا في المدينة التي يبدو أنّها غارقة في اهتماماتٍ أخرى. خفق قلبه بعد تلك السنوات الطوال؛ إذ تذكّر زيارته الأولى للإسكندريّة، والتي كانت محمَّلة بالصلاة. كم كانت الصلاة مُعَبِّدة للطريق الصخري للقلوب. كانت الصلاة بمثابة المحراث الذي بدأ به حرث التربة السكندريّة فأثمرت إيمانًا، لا بحكمة كلام، ولكن بقوّة الله. تنهّد وهو يبارك الله ويطلب نعمة وعونًا لأنيانوس.

التقَى بأنيانوس أوّل مرّة، وبادره بالتحيّة، وعرض عليه أمر حذائه المتمرِّد؛ إذ كان أنيانوس إسكافيًّا. تناول الأخير الصندل كعادته وهو يقلبه يمينًا ويسارًا. رأى أنيانوس أنّ العمر الافتراضي لهذا الصندل قد انتهى منذ زمن، إلاّ أنّ صاحب الصندل تبدو عليه سمات الفقر، ممّا يتعثّر معه شراء آخر جديد. اعتاد أنيانوس على هذا الأمر في الإسكندريّة التي كانت بها طبقة فقيرة كادحة بالرغم من ثراء المدينة.

حسنًا، سأخيط لك الصندل، ولكنّه لن يستمر معك طويلاً! قالها أنيانوس دون أن ينظر إلى صاحب الصندل الذي ارتسمت على وجهة علامة طمأنينة لا يدري من أين أتت!

التقط المثقاب بخفته المعتادة، وبدأ يخيط الصندل، رفع عينه ليرقب الشارع الذي يضج بالمارّة، وإذا بالمثقاب يطعنه في أصبعه في غفلة منه مهدرًا بعضًا من الدماء التي تدّفقت بقوّة. ندّت صرخة منه: إيس أو ثيو (يا الله الواحد).

لقد تذكّر هذا الأمر، وكأنّه حدث بالأمس. تذكَّر كم كانت تلك الصرخة فارقة في تاريخ المدينة. تذكّر أنّ الأمور لم تكن صدفة عابرة، أن يحتاج لإسكافي لإصلاح الصندل، وأن يكون هذا الإسكافي هو أنيانوس. الله ليس إله الصدف، ولكنّه المدبّر الكلّ حسنًا.

تذكّر مشاعره وقتها؛ إذ نبّهته تلك الصرخة، وكأنّه استفاق من سُبَاتٍ عميق على أصوات أبواق العيد في أورشليم. كانت تلك الصرخة كفيلة ببث اليقين في نفسه، إذ رفع تسبحة شكر قلبيّة؛ لأنّه أدرك أنّ الباب الآن مُشْرَعٌ أمام النور ليدخل، وأنّ الأرض الآن باتت مُهيّأة لبذار الحياة.

كم كانت لحظة فارقة، إذ انحنى على الأرض وتفل على الأرض وأخذ الطين ووضعه على الجرح الغائر وهو يُبَارِك الله، ويطلب من أجل شفاء الإسكافي المتألِّم. وللوقت توقف سيل الدّم والتأم الجرح وكأنّ شيئًا لم يكن!!

كم كان الربّ يسوع صادقًا حينما وعدنا بأنّنا الآن نملك قوّة لنصنع كما صنع هو مادمنا قد وضعنا رجاءَنا على الاسم القدّوس. كانت تلك الأفكار هي صلاته الصامتة أمام شاطئ البحر ...

اندهش الإسكافي وأصابه وجوم وكأنّ لسانه انعقد! لم يفهم ما الذي حدث! من هذا الرّجل الفقير والذي يملك تلك المواهب الخارقة!

لقد أَسَرَّ له أنيانوس بما كان يفكّر فيه في تلك اللّحظات لاحقًا وهم يتناولون الغذاء مع بعض الإخوة.

كان صاحب الصندل مُدَرَّبًا جيًّدا على استثمار الأحداث للبشارة بيسوع. التقط الخيط سريعًا، وأدار معه نقاشًا حول الله الواحد، ومعنى الوحدانيّة، وكيف أرسل الله ابنه إلى العالم ليخلص به العالم وهو الذي باسمه نال الشفاء.

كان ما يحدث أشبه بعاصفة غير متوقّعة أدارت رأس أنيانوس. عرض عليه أن يضيفه في منزله عدّة أيام ردًّا للجميل، ولكن الأهم من هذا هو أن يعرف عن يسوع هذا الذي أعطى أتباعه سلطانًا مثل هذا!

لم يَدْرِ أنيانوس وقتها أنّ حياته قد تغيّرت مرّة واحدة وإلى الأبد، وأنّ تلك الاستضافة الليليّة ستحوّل مصير شعب بأكمله. قَبِلَ المعموديّة مع ذويه ليكون بمثابة النواة لعمل شاق يجب أنّ يُعْنَى به في الإسكندريّة. وها قد مرّت السنون وتنامت الجماعة الصغيرة كحبّة الخردل وأصبحت شجرة مورقة وارفة الظلال تضمّ كل يومٍ الكثيرين إلى أحضان المخلِّص.

قاطعه صوت غلام من الخلف؛ يا أبي، موعد الصلاة! الكلّ في انتظارك، وقد جهّزنا القرابين ...

انتبه من ذكرياته المتلاحقة، وقام ملتحفًا بالعباءة، وهو يلقي بنظرة أخيرة على البحر المضطرب والذي يبدو أن يحمل رسالة أنّ موجة عاتية ستضرب السفينة!

مضى برفقة الغلام إلى الكنيسة حيث الجمع جالسٌ في خشوع في انتظار الراعي لتبدأ الصلاة ...

لم يكونوا يدركون أنّ تلك هي المرّة الأخيرة التي يجتمعون فيها معًا ليأكلوا من الجسد المكسور وليرتشفوا من الدماء المسفوكة مع راعيهم المحبوب ...

بعد انتهاء الصلاة، اقتحمت الكنيسةَ جموعٌ هائجة من الوثنين الذين كانوا يحتفلوا في الوقت ذاته بسيرابيس، وصار هرج ومرج ... كان الراعي رابط الجأش، وهو يرى الجموع الثائرة تتّجه نحوه كثورٍ يهيئ قرنيه ليطعن فريسته. كان الفرح الفصحي ونشيد القيامة يملأه بالثقة والرّجاء. رفع عينه إلى فوق طالبًا عونًا للقطيع ومُسَلِّمًا حياته في يد القائم من بين الأموات ...

قبضوا عليه وهم في ثورة عارمة كما على ذبيحةٍ، وربطوه من يديه ورجليه وطافوا به في طرقات المدينة وكأنّ الله أراد أن يُدَشِّن كلّ بقعة من المدينة بدماء إخلاص مُرْسَلَه الذي أحبّه وأطاعه إلى المنتهى. أُلقي به في السجن وهو كومة من جراحٍ متقيّحة ودامية، إلاّ أنّ نفسه كانت صامدة وخاصّة بعد أن نال تعزية من المُخَلِّص، مُرْسَلةً على فم ملاكٍ ظهر له في ظلام السجن. في اليوم التالي كرّروا الكرّة مرّة أخرى. بينما كانوا يريدون أن يُمعنوا في العذاب، بدا الأمر وكأنّهم يمنحونه لحظة وداعيّة لكلّ بقعة في المدينة، وختمًا مقدَّسًا بالصلاة لكلّ موضع وطأته قدماه من قبل للبشارة بيسوع مخلّص الجميع. ومن عمق الصلاة والألم، انطلقت روحه خفاقة على أنغام القيامة السمائيّة وعلى قيثارات تعزف نغمات، ليست من ألحان الأرض، بيد السمائيين ... حَلَّقت روحه حول المدينة من فوق لتعاين عمل الله الذي بدأ يجتاح المدينة ... ولتباركها مرّة أخيرة قبل أن تسكن بقرب المخلِّص ...

انطلقت روح مرقس الرسول والإنجيلي والكارز والشهيد إلى الخدر السمائي، ولكنّها لازالت ترفرف حول كلّ قلب عرف النور معترفًا بفضل مَنْ بَذَرَ البذار الأولى ...

˜

يا مرقس الرسول الإنجيلي الشاهد لآلام الإله الوحيد

أتيتَ وأنرتَ لنا بإنجيلك وعلمتنا الآب والابن والروح القدس

وأخرجتنا من الظلمة إلى النور الحقيقي 

وأطعمتنا خبز الحياة الذي نزل من السماء

تباركت بك كل قبائل الأرض، وأقوالك بلغت إلى أقطار المسكونة

السلام لك أيها الشهيد، السلام للإنجيلي 

السلام للرسول مرقس ناظر الاله

أطلب من الرب عنّا أيها الناظر الإله الإنجيلي مرقس الرسول 

 ليغفر لنا خطايانا