برفقته في رحلة التجديد: ما بين سؤال الفضول، وسؤال الدخول!!

فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَقَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟» فَقَالَ لَهُمُ: «اجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ. [لوقا 13: 23-24]

كعادة البشر حينما يجدون فرصة ثمينة للسؤال تجد أسئلة مثل هذه! أسئلة تهتم بالعدد لا بالآلية، تهتم بالفضول لا بكيفيّة الدخول. لا أفهم ما الذي يعنيه العدد لشخصٍ يريد أن يتعلَّم طريق الخلاص من المسيح رأسًا؟ هل يريد أن يبرِّئ نفسه بأنّ العدد قليل، فهو لن يستطيع أن يكون من هؤلاء، أو أن يبرِّر نفسه أنّ العدد قليل فهو إذًا من الجماعة المختارة العظيمة المُخَلَّصة؟! ما هدف السؤال الكمي؟؟؟ لاشيء. نحن نسأل عن العدد، وهو يريد أن يكلّمنا عن الطريق!! نحن نسأل عن الآخر هل سيدخل السماء أم لا، وهو يريد أن يسألنا هل بدأتم السير على الطريق أم لا!! ثم، كيف يمكن ليسوع أن يجيب على سؤال مثل هذا ودلالة السؤال أيضًا ليست واضحة للسائل؟؟ فما معنى قليل؟ هل هو قليل بالنسبة لجيله؟ أم قليل بالنسبة لإسرائيل؟ أم قليل بالنسبة للكوكب؟ أم قليل بالنسبة لعدد البشر في كلّ العصور؟!! لقد كان هناك تصوُّر لدى الكثير من الرابيين وحكماء اليهود أنّ كلّ إسرائيل سيخلص وسيكون له شركة في العالم العتيد (Sanhedrin 10:1). هل كان يلمِّح المتسائل عن إسرائيل فقط؟ يمكن ...

لذا لم يجب المسيح بنعم أو لا على هذا النوع من السؤال، لكنّه وضع سؤالين آخرين هما الأكثر أهميّة، وأجاب عليهما. كان سؤالا يسوع المرتبطين ببعضٍ هما؛ كيف أخلص؟ ولماذا لا يقدر الكثيرون على الخلاص؟ إجابة يسوع كانت: عليك فقط أن تدرك أن دورك هو في أن تجتهد أن تدخل من الباب الضيّق، لذا لا يكفي أن تطلب الخلاص، لأنّ الطلب وحده لا يتحوَّل لقدرة.

حينما أتكلّم عن الإنجيل المقلق، يتعجَّب البعض لأنّه يرى الإنجيل مصدر تعزيّة! بالتأكيد الإنجيل به الكثير من التعزيات، ولكنّه وحدة متكاملة، تتكامل فيها رسائل التعزية والطمأنة للقلوب المنهكة، مع رسم طريق الحياة على درب ضيق، وهو طريق مقلق للغاية لنمط الحياة الاعتيادي الذي أدمن دورة الحياة. بالنسبة لك، يجب أن يَتَحَدَّى الإنجيل كلّ خليّة من خلايا وجودك، ولا يجعلها تهدأ أو تستريح أو تطمأن للحياة الحاضرة وطبيعتها وزمنها وعلاقاتها!

من تلك النصوص المقلقة جدًّا هو هذا النصّ الذي حينما تقرأه تشعر أنّك لا تملك سوى أن تجثو على ركبتيك، وتبحث في مفردات الصلاة، ولا تجد سوى: يا ربّ يسوع، ابن الله الحي، ارحمني أنا الخاطئ.

نعم، فقد اعتدنا على المناداة بأن الطلبة لله كافية، ولكن نسينا أنْ نُعَرِّف الطلبة القانونيّة التي تسمح لقدرات الخلاص أن تجتذبنا إلى حيث هو. في دائرة انتاج مسيحيّة العبارات والمفردات والخُطب توهّمنا أو تسلّل إلينا الوهم أنّ الطلبة هي أن نقول فقط!! أن نطلق بعض المفردات!! أن نتلفَّظ ببعض العبارات!! !! لقد كتب يوحنّا كلامًا واضحًا لا يقبل التأويل: "يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ!" (1يو3: 18). وهو ما يدفعنا للسؤال: أين المذبح الذي نرفع عليه طلباتنا؟! لكي تصعد الطلبة إلى العلاء كذبيحة يتنسَّمها الله رائحة رضى وتأتينا بقدرةٍ يجب أن يكون هناك حالة قلبيّة من الانكسار تتجلّى في تصرفاتنا ومواقفنا. القلب المنكسر لا يرذله الله (مز50). حالة القلب لا يمكن أن تُزيَّف، لأنّها في دواخلنا ولا نحتاج إلى تجميلها، لا يراها أحد، نحن والله فقط. أمّا الكلمات تزيَّف بسهولة سواء بوعي أم بخداعٍ من المُخَادِع.

لقد قال الربّ يسوع، وهو صادق في هذا: "اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ." (لو11: 9). نفس المفردة المستخدمة للطلبة في هذا العدد هي هي تلك التي وردت في النصّ السابق!

وهنا تبدأ حيرتنا ...

ألم تقل يا ربّ أن نطلب لنجد! فلماذا تعود فتقول وتصرِّح هذا التصريح المخيف؛ أنَّ الكثيرين سيطلبون ولكنّهم لن يقدروا! ألست أنت مانح القدرة؟! ألا يكفي أن نطلب منك وأنت تمنحنا قدرة الخلاص؟! أليس طلبنا هو اعتراف أنّنا لا نملك القدرة لذلك نطلبك؟!

من الواضح أن تصريح المسيح ههنا يتحدّى كلّ فهمنا السابق لمعنى "أنْ نطلب".

يبدو أننا اعتقدنا أنّ الحياة المسيحيّة هي تنهيدة، وانحناءة، ورفعة أيدي، وزفرة ألم، ورغبة وحماسة طلبة، دون أن ندرك السرّ الذي يستحضر قدرة الله إلى حياتنا. يبدو أنّ "مسيحيّة اللّحظة" أخذت مكان "مسيحيّة الكينونة"، أي أنّنا نمارس دورًا مسيحيًّا في لحظة ما من خلال إطلاق طلبة، ونعود بعدها إلى نمط حياتنا، مكتفين وآمنين مطمئنين أننا قد طلبنا، ونرمي بالكرة في ملعب الله، إن أراد أن يخلِّصنا!! ونحمّله المسؤوليّة!!

مرّة أخرى ... يبدو أنّنا فهمنا الطلبة بشكلٍ خاطئ ...

ولكن، لم يتركنا المسيح للحيرة، فقد أوضح لنا أنّ السرّ يكمن، لا في الطلبة، ولكن في الاجتهاد "اجتهدوا" الذي يختم لنا الطلبة. تلك الكلمة "اجتهدوا" في أصلها اليوناني تعني اصنعوا كلّ جهد ممكن، وتستخدم الكلمة في حلبات المصارعة للتعبير عن النزال والصراع. إنّها المفتاح بكلّ تأكيد للتعبير عن صدق الطلبة.

كيف يمكننا أن نعرف إن كانت طلباتنا صادقة أم لا؟! هل بنبرة الصوت؟ هل بذرف الدموع وقت الطلبة؟ هل بتوجُّع القلب أثناء الطلب؟ كلّ هذا جيّد، ولكنّه ليس معيار مصداقيتها. أعتقد أنّ مصداقيّة الطلبة يكمن في أن تخرج من كلّ كينونتنا، التي تجتهد لترفع الطلبة لله. القلب، الإرادة، العقل، الرغبة، نمط الحياة، أولويات الحياة ... كلّ شيء يجب أن يُعبِّر عن طلبتنا، وكلّ ما كانت صرخة الإنسان في طلبته هي صرخة كلّ إنسانيّته، بكلّ كيانه، كان ذلك تعبيرًا عن صدق الطلبة. والطلبة الصادقة لها مكان فوق، لتجد رحمة وعونًا في حينه.

هل يمكن مثلاً أن تحزن أم على ابنها المريض ثم تخرج للسهر والتمتّع بوقتها، تكتفي بأنّها حزينة، وقلبها يتوجّع حينما تتذكّر ابنها المريض؟! أعتقد أننا سنقول إنّها ليست صادقة في حزنها. فالحزن حالة كاملة تتجلّى في كلّ تصرفات الإنسان. هكذا أيضًا اجتهاد الطلبة.

وللقياس يمكننا أن نتساءل؛ هل يكفي أن يطلب الطالب النجاح؟ هل يكفي أن يطلب المدمن التعافي؟ هل يكفي أن يطلب العالم الكشف الجديد؟ هل يكفي أن يطلب المتزوج نجاح الزيجة؟ هل يكفي أن يطلب الرّاعي نمو رعيته؟ هل الطلبة وحدها تكفي أم أنّ هناك خطوات أوليّة يجب أن تُعبِّر عن صدق الطلبة؛ مثل الاجتهاد قدر الطاقة في المذاكرة، الاجتهاد قدر الطاقة في التخلُّص من مسببات الإدمان، الاجتهاد قدر الطاقة في إجراء التجارب العلميّة دونما يأس، الاجتهاد قدر الطاقة في محاولة فهم الطرف الآخر في الزيجة، الاجتهاد قدر الطاقة في تعليم الرّعية وعونهم على الطريق الروحي ... إلخ.

يبدو أن لاهوتًا أراد أن يُفَرِّغ سينرجيا العمل الإلهي/الإنساني من دورها تسلَّل إلينا وأنسانا أنّ مفتاح ارتفاع الطلبة واستحضار قدرة الخلاص الجاذبة إلى أعلى هو الاجتهاد.

لن نجتهد لكيما نخلِّص أنفسنا! لا نستطيع لو قطّعنا أجسادنا نسكًا وصومًا وصلاةً وخدمةً أن نُخَلِّص أنفسنا! من يرجو في نفسه شيئًا فهو في خداعٍ! مُخَلِّصنا هو الربّ يسوع وحده، كما نُسبِّح في الأسبوع المقدّس، أسبوع البصخة، مئات المرّات ونقول إنّه هو "مخلصي الصالح".

وليس هذا فقط، فالقديس بولس يصرِّح أنّ الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل المسرّة (في2: 13)، ولذلك يمكننا أن نتمِّم خلاصنا بخوفٍ ورعدة (في2: 12). أن نتمِّم خلاصنا تعني "أن نعمل عليه" لا أن نقبله كحقيقة مجرّدة ونحن في وضعٍ سلبي. هناك عمل ودور لنا في تحويل "الخلاص"، إلى "خلاصنا" من خلال القبول الفاعل والعمل الجاد والاجتهاد برفقة النعمة.

ولكن اجتهادنا هو أن ندخل من الباب الضيِّق. لا نستطيع نحن وحدنا أن ندخل من الباب الضيِّق؛ فالنعمة هي من تُمَكِّننا من هذا العمل الذي يضاد كلّ مسارات الرغبة في أجسادنا وعالمنا المادّي. يجب أن نصغر بالقدر الكافي للمرور منه، وهذا دور النعمة لمن يحاول أن يصير صغيرًا لكي ما يعبر. من هم مثل الأولاد يقدرون أن يدخلوا ملكوت السماوات (مت18: 3)؛ هذا إعلان المسيح، لأنّهم من الصغر ما يجعلهم يعبرون. أن نصغر يعني أن تصغر ذواتنا، أن تضمحل شيئًا فشيئًا، ويكون لسان حالنا هو "لا أنا" بل "المسيح". ومن يكون "في المسيح" يمكنه العبور. حينما سأل القديس مكاريوس الكبير عن كيفيّة الخلاص من الفخاخ الكثيرة على الطريق، كانت إجابة الله له "المتضعون يخلصون" لأنّهم صغار، ويدركون صغرهم، ويكبروا فقط في المسيح. دورنا إذًا أن نعبِّر عن مصداقية سعينا وطلبتنا ورغبتنا في أن نجتهد في الدخول، برفض كلّ ما يُضخِّم ذواتنا.

يبدأ الاجتهاد برفض غواية الباب الواسع، الرّحب، المملوء بالرفاق، المُفْعَم بالحركة، المحكوم بقوة التدافع! ليس سهلاً على الإطلاق في عصر العولمة الكونيّة ألاَّ نُشَابِه العالم، ولا نسايره على طريق الباب الرّحب. فنحن نُبَرْمَج في كلّ لحظة من لحظات حياتنا بالعالم سواء أدركنا أم لا. نحن نُبرمج لنفكِّر بمنطق العالم، ولا أقصد في الأمور الشريرة فقط، ولكن حتى في الأمور الساميّة، نجد أنّ العالم يبرمجنا كيف نفكِّر فيها بشكلٍ يتوافق مع باقي النظام العالمي الحالي.

لقد أدرك رئيس هذا العالم أنّه لا يكفي أن يحاول غوايتنا إلى الشر، ولكنه "اجتهد" لرسم طريقًا به من المفردات المسيحيّة ما يكفي، ولكنّه أعاد صياغتها وتركيبها بشكلٍ آخر، وأغرقنا فيها لنطمئن، حتى لا نشعر بغربة الطريق الرّحب. لقد مارس دوره وفنّه الدائم في تقديم الحقائق ولكنّها مركّبة بشكلٍ خاطئ لئلا تقدِّم لنا صورة يسوع الحقيقيّة. لقد اجتهد على نزع فتيل التمييز الروحي من خلال الإغراق في المفردات والخطب والكتب ذات السمة الروحيّة والشكل الروحي حتى لا نُسَائِل ونمتحن الطريق بشكلٍ شخصي. لقد حَرِصَ كلّ الحرص أنْ نعتقد أنّ الباب الرّحب الذي نسير إليه هو بابٌ ضيِّق إذا ما قورن بالباب الأكثر رحابة الذي للانحلال المحيط بنا. ولكن الباب الضيق ليس علاقة نسبيّة بأبوابٍ أخرى، إنّه بابٌ أوحد ضيِّق. نحن لا نخلص إن اجتهدنا أن ندخل من باب أضيق من الأبواب التي تحيط بنا، ولكنّنا نخلص إن رفضنا كلّ الأبواب، وسعينا أن نطلب باجتهاد فقط "الباب" الضيق عبر "الطريق" الضيّق على ذواتنا المنتفخة.

نعم إنّ الكثيرون سيطلبون ولكنّهم لن يقدروا! لأنّهم سيطلبوا خلاصًا على بابٍ آخر!! سيصرخوا للبعل وإن أطلقوا عليه اسم "المخلِّص"!! سيطلبوا خلاصًا دونما اجتهاد!! سيطلبوا خلاصًا دونما وعي بأنّ طريقنا هو طريقه، لنشابُهه، لنعبُر به وفيه إلى السماوات عينها.

إنّ نموذج مريم العذراء مُلْهِم في هذه الحقيقة. فهي كشفت لنا السرّ؛ ستبتهج روحك بالله "مخلصك" حينما تكون في حال الاتّضاع فهو ينظر إلى "اتضاع أمته" (لو1: 47-48) ... لأنّ هذا هو سرّ الاجتهاد للدخول من الباب الضيَّق ...