على ضواحي أورشليم، كانت ليسوع وقفة أخيرة. هناك من بيت عنيا أرسل تلميذين ليعد دخولاً احتفاليًّا مسيانيًّا مُتمِّمًا نبوّات الكتاب (انظر زك9: 9). كان يسوع يحقّق النبوّة بشكل عفوي وغير مفتعل لكي ما يشهد بالنبوّة لصدق الواقع الحادث. الكلمة النبوّية أثبت؛ هكذا شهد القديس بطرس (2بط1: 19)، ولكنّها تحتاج إلى انتباه لتعمل عملها النبوي كمصباح على الطريق، وذلك حتى يبدأ الشخص التعرّف على يسوع كربّ، وقتها ينفجر النهار الجديد، ويمرّ كوكب الصبح في القلب المنفتح على النور.
كانت رسالة الربّ يسوع كلّها تأسيسيّة لملكوت له رأس أوحد، يعمل على إنارة العالم، ويملّح طرقات البشر وقلوبهم، ليكونوا بني الملكوت. الآن، يعطي يسوع ملمحًا ملكوتيًّا في دخوله إلى أورشليم.
أرسل تلميذين إلى القرية المجاورة (يرى البعض أنّها بيت فاجي، إذ أنّها تقع على الشمال الغربي من بيت عنيا، بالقرب من أورشليم) ليستحضرا أتانًا لم يعلوه راكب من قبل. قد يبدو هذا المطلب غير مفهوم! ولكن الربّ يسوع يمارس، نبويًّا، ما يسمّى بـ ”حقّ الملك“ the right of a king في أن يمتطي مطيّة لم يسبق لأحد أن امتطاها من قبل. هو ملكٌ ولكنّه سيغيّر القواعد مرّة واحدة وإلى الأبد في مفهوم الملوكيّة والسيادة. قبل أيام كان مطلب بعض التلاميذ بمكانة عن يمين ويسار الملك. ردّ يسوع كان تعديل مفهوم السيادة والملوكيّة. السيادة والسلطة على الجموع يرتبطا بمُلْكٍ فوق البشر، بينما مُلْك يسوع يَخلق خدامًا يقودون العالم من تحت الأقدام. مسار يسوع الإخلائي كرّس طريقًا ملوكيًّا جديدًا يعبر من تحت الأقدام، ومن وسط الألم، لكينونة جديدة تملك إلى الأبد برفقة يسوع. من يريد ملكًا حقيقيًّا يطرق طريق الإخلاء، وهناك يتدرّب على ملوكيّة لن ينفد بريقها وألقها، لا تهرم وتشيخ، لا تذوي وتتلاشى، ولا تحتاج لانقلاب ولا يمكن الانقلاب عليها. إنّه طريق يكرّسه يسوع كسابقٍ لأجلنا إلى ما داخل الحجاب (عب6: 19)، حيث يسوع يستعلن كملك، تخضع له كلّ ركبة، ويهتف له كل لسان، أنّه ربّ لمجد الله الآب (في2: 10 - 11). حينما أراد اليهود من قبل تنصيبه كملك، انصرف إلى الجبل وحده (يو6: 15)، رافضًا ملوكيّة العالم، بآليات العالم، لخدمة المُلْك من دون العالم. موعد إعلان ملكه هو الذي يحدِّده، وليس آخر. هو المدبّر للأزمنة، وهو الذي يحرّك خيوط الزمان، تدبيريًّا، ليحقّق ملء الاستعلان في ملء الزمان (أف1: 10). البشر لا ينصبون يسوع ملكًا، ولكنّهم يكتشفون ملكه القائم، وينضمون إلى قطيع مملكته العلويّة. إنّ الربّّ يسوع يقدِّم ذاته الآن كملك، إنّه في مسار كشف ملكه المحتجب عن الأعين والقلوب. هنا المخاطرة من سوء فهم مملكة يسوع. لقد كانت مملكة يسوع بالفعل تتقاطع مع ممالك العالم، وتنتقد آلياتها ومبادئها ولاأخلاقياتها، لتنقض ما فيها من زيف ووهم، لحساب إنسانيّة حرّة فيه. لذا، كانت ملوكيّته خطرة، لا لأنّها تسعى لإزاحة ملوكيّة قائمة، ولكن لأنّها تصنع من بنيه، الذين قبلوه، ملوكًا في مملكته العتيدة (رؤ1: 6). هي ملوكيّة تخلق قلوبًا حرّة، وأذهانًا واعيّة، تستطيع أن تملك ناصيّة قرارها وخيارها. الملك في العالم لا يريد له شريكًا على رأس الهرم السلطوي، بينما ملوكيّة يسوع هي جمع ملكي أو جماعة ملوك أو جماعة ملوكيّة. هي جماعة ملكيّة قائمة على الشركة والحبّ. الكلّ فيها سواسيّة. ليس من طبقيّة من أي نوع في هذا الجسد الجديد. من يقبل مُلك يسوع يبدأ في رحلة التغيّر إلى صورته. وصورته باسمة للجميع، وقابلة للجميع، هكذا كلّ من ولد منه؛ كل من يجعلهم ملوكًا في ملكوت أبيه. في سفر الأعمال نقرأ أنّ الربّ كان يضم إلى الكنيسة الذي يخلصون (أع2: 47). لم يخص جماعة، أو عرق، أو طبقة، أو جنس، أو مجتمع. الكنيسة كانت مُشْرَعة الأبواب على مصراعيها لأنّها مُلك مفتوح للجميع؛ ليست مِلك أشخاص، ولا جماعات رأسماليّة، ولا عرقيات إقصائيّة، ولا مجموعات لها صورة التقوى ولكنّها تستعلي على الآخرين، ولا مفكرين حاذقين متقوقعون على أنفسهم، ولا عائلات تبحث عن أمانٍ لها فلا تغامر بقبول الجديد. مُلك يسوع الذي كان يطلقه هو ملك يستوعب الجميع. هذا بكلّ تأكيد يثير حفيظة القوميين، والعرقيين!!
أرسل يسوع التلميذين بإجابة لمن يسأل عن سرّ حلّ الأتان. فلنتخيل لوهلة أنّ شخصًا ما يدخل إلى مكانٍ ما ويأخذ عربة وينطلق بها على الطريق! هذا العمل يسمّى سرقة، ولكن إن كان ثمّة اتفاق مسبق على تلك الإرساليّة فإنّ الأمر يختلف. لا نملك معلومات كافيّة حول الأمر؛ هل كان ثمّة اتفاق بين يسوع ومالك الأتان من قبل؟ هل كان يسوع مُطَّلع على قلب مالك الأتان والذي كان يحلم بأن يقدِّم أي شيء للربّ، وقد حانت الفرصة، ولذا لم يعوّق التلاميذ في تلك الإرساليّة القصيرة؟ لقد حدث الأمر مع قراءة الربّ لقلب نثنائيل، ومع قراءة الربّ لقلب متى، ومع قراءة الربّ لقلب زكا، وغيرهم. هل كان أحد الذين شفاهم يسوع، أو شفى أحد أقرباءهم من قبل، وهو يحاول ردّ الجميل؟ لا ندري. ولكن، هناك ثمّة صورة واحدة تدبيريّة تجمع كلّ عناصر الحدث؛ بدءًا من إطلاق يسوع، للتلميذين، لصاحب الأتان، وذلك الأمر سهّل من تلك المهمة التي يسجّلها التاريخ.
هناك على الدوام فرصة سانحة لنشارك يسوع مخطّطة في العالم. قد لا نملك سوى أتانٍ صغير، وقد نكون في حاجة إليه، ولكنّه كافٍ لنكون على خارطة الأيدي العاملة مع يسوع. لقد أصبح هذا الأتان أشهر أتانٍ في التاريخ الإنساني قاطبة. كتبت فيه الأشعار، تغنى بخضوعه المرتلين، صار رمزًا للاهوتيين. قد نملك بعض الأشياء ونحاول الإبقاء عليها، وهذا يجعلها بلا قيمة حقيقيّة. قيمتها عارضة مؤقّته محدودة الأثر. ولكن ما نطلقه ليسوع، يساعدنا أن نكون نحن أيضًا ليسوع. كيف يمكننا أن نكون له ولا نشارك في مخطّطه الخلاصي للعالم. كيف نقف من بعيد كمتفرجين لمسار الخلاص ولا نشارك بطيبٍ كمريم، أو بأتانٍ كصاحب الأتان، أو بقبرٍ فارغ كيوسف الرامي؟ كيف نحبّ يسوع مؤمنين أنّه المركز الحقيقي لوجودنا، ونحتفظ لأنفسنا بما يمكن أن ينال امتياز خدمة مخطّط ملكه، أو نحتفظ بأنفسنا لأنفسنا من دونه؟!
الحبّ في جوهره فعل إطلاق من أجل تحقيق كينونة أعمق، لا أكثر ولا أقل ...
لقد كانت إجابة التلميذين للسائل؛ إنّ الربّ محتاج إليه. إنّ القديس متى والقديس مرقس لم يستخدما كلمة ”الربّ“ في وصف يسوع بهذا الوضوح من قبل حدث دخول أورشليم، إذ كانت الكلمة تأتي فقط في معرض سرد الأحاديث في الأمثال، إن استثنينا ما أعلنه يسوع عن نفسه أنّه ربّ السبت أيضًا. يبدو أنّ الوحي المقدّس كان يريد أن يقدِّم من خلال تدوينات الإنجيليين مسارًا تصاعديًّا حتى يمكن للقارئ أن يهتف في آخر الرواية الخلاصيّة أنّ يسوع هو ربٌّ مع الدخول إلى أورشليم، ليشارك المحتفلين بالآتي باسم الربّ. في المقابل نجد أنّ القديس لوقا كان يستخدم الكلمة كثيرًا في وصف المسيح، إذ أنّه من المرجّح أن يكون ذلك في إطار المقابلة التي يصنعها بين ملك يسوع / ملك قيصر، يسوع ربّ / قيصر ربّ، لصالح ملوكيّة وربوبيّة يسوع.
إلاّ أنّنا هنا، في حدث إرساليّة التلاميذ إلى القريّة المقابلة لاستقدام الأتان، أمام اتفاق الإنجيليين التام (متى، ومرقس، ولوقا) على الصيغة وهي أنّ ”الربّ“ محتاج إليه. هنا تأتي كلمة ”الربّ“ دونما وصف لماهيّة الربّ. لم يكتبوا الربّ يسوع، أو المسيح الربّ أو غيرها من الألقاب الممكنة. لقد كان الجدل حول شخصيّة يسوع محتدمًا بين الأوساط اليهوديّة؛ فهو المسيّا الربّ لدى البعض، وهو الضال المُضل لدى البعض الآخر. كان يسوع هو محور اهتمام الجموع في تلك البقاع وقتها، ولذا كانت كلمة ”الربّ“ لأحد تابعي يسوع كافيّة ليدرك عمّن يتحدّث التلميذان. هل كان إخفاء الاسم في هذا الوقت جزءًا من مخطَّط دخوله المفاجيء إلى أورشليم حتى لا يتسرّب الخبر إلى رؤساء الكهنة والقادة المتآمرين على يسوع؟ يمكن. على أيّة حال، لقد استوعب صاحب الأتان الرّسالة، وشارك بما يملك في تلك الصورة التدبيريّة الكبرى والتي يكتمل ترسيم ملامحها النهائيّة في الأيام القليلة القادمة.
من اللاّفت للنظر، على المستوى الروحي، أنّ التعبير الذي دوّنه الإنجيليون ”الربّ محتاج“ يمس وترًا في القلوب التي تقف من يسوع موقف الخضوع له كإلهٍ حقٍ من إلهٍ حقٍ. إنّ التعبير ”الربّ محتاج“ على بساطته، كغيره من التعبيرات مثل جاع يسوع، بكى يسوع .. وغيرها، يستحضر كلّ مشاعر الدهشة والامتنان العميق في الوقت ذاته. إنّ تدوين الروح في الأناجيل يطلق تلميحات قصيرة بين الآن والآخر أنّ يسوع يحيا إنسانيّة حقيقيّة كاملة غير منقوصة وإن كان بدون خطيئة. أمام ألق المعجزات الباهر والافتتان بالمشهد المعجز يمكن للعقل أن يرفض أن يرى سوى يسوع الربّ، وليس يسوع الربّ المتجسِّد والمتأنِّس حقًّا وصدقًا! نعم، العقل لن يسعفنا وحده أمام المشهد الذي يسدِّد فيه يسوع احتياجات الجموع بلفتة منه إلى السماء، وإيماءة من يده بالبركة، وفي الوقت ذاته يجوع، ويبكي، ويحتاج!! يضغط العقل على متون المنطق لعله يتمكن من إطلاق معادلة ممكنة لهذا الأمر. ولكن المنطق يقف مندهشًا أيضًا إذ أنّ تلك التبادليّة ما بين الفعل المعجزي غير المسبوق، والاحتياج الاعتيادي المألوف، ليست مألوفة بين معادلات منطق البشر وخبراتهم عبر العصور. ليسوع معادلته الخاصّة التي تجمع بين الإلهي والإنساني بشكل متفرِّد، وينطلق منها وحدانيّة يصعب تتبّع وحدات تكوينها الأولى في كلّ تفصيلة؛ فاللاهوت متّحد بالناسوت في يسوع الكلمة دونما مفارقة ولو لطرفة عينٍ. الذهن يميل للتفكيك للفهم، ولكن الروح يسجد للقبول حينما تكون المعادلة استثنائيّة بهذا المقدار. التفكيكيّة قد تصلح في الواقع الإنساني المعتاد المتكرِّر الظواهر، بينما أمام تلك الظاهرة غير المتكرِّرة فإنّ التفكيكيّة لن تمكننا من الوصول إلى أكثر ممّا يقدّمه لنا إعلان يسوع ذاته عن ذاته. لذا فإنّ الكنيسة تحتفل بالمسيح الربّ الملك ذو القوة والمجد والبركة والعزة، وهي تقرأ الأناجيل وتشاركه لحظات الاحتياج والوحدة والمعاناة والألم. الكنيسة لن تؤمن به إلهًا مجيدًا في القيامة فقط، ولكنّه الإله الكامل في إنسانيّته الكاملة الآن وهو يعلن أمامنا عن احتياجه التدبيري. الاحتياج يؤكِّد على واقعيّة التجسّد، وتسديد احتياجاتنا يؤكِّد على ألوهة يسوع، ومن المشهدين نبدأ التسبيح مع المحتفين على طرقات ومداخل أورشليم: