يدخل الربّ يسوع الهيكل ولكن بشكل مختلف هذه المرّة. إنّه يدخل ثائرًا على الأوضاع الخاطئة. في الكثير من الأحيان نتوهّم الوداعة مرادفًا لعدم القدرة على اتّخاذ المواقف، أو انعدام القدرة على تكوين الرأي، أو الموافقة الساذجة على رأي المحيطين، أو محاولة ارضاء جميع الأطراف. نصوِّر يسوع وكأنّه كائنًا لامباليًّا، اعتماديًّا على التدخلات السمائيّة دون التدخُّل التعليمي / النبوي ضدّ الخطأ. بيدْ أنّه ثمّة فارق كبير بين التدخلات العنفيّة لتحقيق مكسب شخصي، وبين الغيرة الحقيقيّة والتي تسعَى لكيما يتوقّف استغلال لافتة الهيكل / الدين / الله لتحقيق مصالحٍ خاصّة على حساب الحقّ / الرّحمة ... على حساب الإنسان. لم يكن الربّ يسوع ممّن يبحث عن مغانم خاصّة، لذا لم يسيّس رسالته طالبًا انحناءة خانعة من جموع لا تملك إلاّ أن تنحني خوفًا من العواقب. لقد كان على الدوام عنوانًا للحقيقة، إذ أنّه نبعها، مهمّا كلّفه الأمر.
إن سألت أي يهودي في القرن الأوّل الميلادي عن أهم ثلاثة أعمدة تشكّل قدس أقداس وعيه الشخصي، ووعيه الجمعي أيضًا، سيجيبك على الفور؛ الهيكل، التوراة، الأرض. من هنا يأتي أي موقف يتّخذه يسوع من الهيكل غاية في الخطورة لأنّه يمثّل مركز التوراة والأرض. لا ننسى أنّ إحدى الشكايات على يسوع كانت إعلانه عن هدم الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام! (مر14: 58)، بل إنّ إحدى أدوات السخريّة من يسوع على الصليب كانت: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلّص نفسك .. (مت27: 40). الهيكل، ليس فقط مركز ديني، ولكنّه كان مركز سياسي، واقتصادي أيضًا. هو مركز قوّة في أورشليم ويعمل له ألف حساب من الجميع. كان الاقتراب منه اقترابًا من كتلة مصالح شرسة في دفاعها عن وجودها ...
لقد دخل الربّ يسوع الهيكل، وإذ بنّا أمام ثورة عارمة من يسوع صوب:
الذين يبيعون ويشترون في الهيكل
باعة الحمام على وجه الخصوص (كما ذكر الإنجيليون)
الصيارفة
المجتازين بأمتعة
لكي نستوعب سرّ الثورة العارمة على الأوضاع الخاطئة بالرغم من خطورة الموقف، الذي بدا واضحًا من اتفاق قادة اليهود على التخلُّص منه بأقصى سرعة علينا بفحص الأمر عن قرب.
نقترب من الصورة، من رواق الأمم، لنرصد أبعاد الصورة على حقيقيتها. كانت الفئة الأولى هي الذين يبيعون ويشترون في رواق الأمم. لقد كان هذا الرواق من الأجزاء التي اتّسعت في مشروع هيرودس الذي أضاف من خلاله ما يقرب من 35 فدانًا للهيكل في محيط رواق الأمم. إلاّ أنّ رواق الأمم كان من المفترض أن يخصّص للصلاة للأمم إذ لا يستطيع الأممي أو الدخيل أن يصلي في مكانٍ آخر من الهيكل. لذا نجد أنّ الربّ يسوع اقتبس من إش 56: 7 في محاجته التي قام بها في الهيكل في ذاك اليوم، والتي ورد فيها أنّ بيت يهوه هو بيت صلاة لجميع الشعوب (الأمم). من المفترض أن يدخل الأمم إلى هذا الرواق المخصّص لهم للصلاة حتى يتمكّنوا من الصلاة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يصلي في مكان يعج بالماشية، والبيع والشراء، وموائد الصيارفة، والعابرين بالبضائع عبر المدينة. لقد غطّى خوار الثيران، ورنين قطع النقود الفضيّة، ومساوامات التجّار، على أصوات المتعبّدين، وأصبحت الصلاة في هذا المكان شبه مستحيلة.
يكشف لنا أحدّ المفسرين؛ شفايتزر Schweizer، عن بعض الوثائق التي نقرأ فيها عن معاملات البيع والشراء، بل إنّه يذكر وثيقة تظهر أنّ أحد التجّار قد باع وحده في موسم الفصح ما يقرب من الثلاثة آلاف رأس ماشيّة من أجل الذبائح في رواق الأمم!
لم يكن الأمر هكذا من قبل بحسب رأي إيبشتاين Eppstein. هو يدلِّل من خلال دراسة تفصيليّة أنّه حتى عام 30م. تقريبًا كانت تلك التجارة تقع في ضواحي جبل الزيتون بعيدًا عن رواق الأمم. يبدو أنّ هناك صفقة ما قد تمّت ما بين قادة الهيكل وبين التجّار للسماح بعرض البضائع في رواق الأمم مقابل نسبة ما، وهناك بعض الدلائل التي يسوقها إيبشتاين أنّ قيافا كان متورطًا في هذا الأمر.
الفئة الثانية كانت هي باعة الحمام. إنّ الحمام كان من التقدمات التي تقرّب في الهيكل وخاصّة لمن يسعى لنوال التطهيرات مثل المرأة (لا12: 8)، والأبرص (لا14: 22)، وغيرها من المتطلبات التشريعيّة. كانت تقدمة الحمام، بالإضافة إلى ذلك، هي تقدمة الفقراء. نقرأ أن أمنّا العذراء ذهبت إلى الهيكل لتقدّم عن تطهيرها بزوج يمام / بفرخي حمام (لو2: 24). ولكن يتبدّى لنا السؤال؛ أين تكمن المشكلة إذًا؟
يبدو أنّ المشكلة كانت هي الاحتكار. كان من الصعب على الكثيرين أن يأتوا بالحيوانات التي يريدون تقديمها إلى الهيكل، وخاصّة أولئك القادمون من أماكن بعيدة. كان البديل هو توفّر حيوانات / طيور صالحة لتقدَّم كذبيحة من خلال أولئك الباعة في رواق الأمم. ولكن ما حدث هو أنّ أولئك الباعة استغلوا الموقف، وكانوا يغالون في الأسعار، ضاغطين على اقتصاد الفقراء الهش، والذي بسبب من تقواهم لم يستطيعوا إلاّ أن يرضخوا لكيما يقدّموا الذبائح. نقرأ عن هذا الأمر من رابي سمعان بن جمالائيل (نقلاً عن لايتفوت Lightfoot في تفسيره لإنجيل القديس لوقا) الذي وجد أنّ باعة الحمام يمارسون نوعًا من الابتزاز للفقراء، إذ كانت كلّ حمامة تباع بقطعةٍ من الذهب في ذلك الموسم، في الوقت الذي يرى فيه رابي سمعان أنّ قطعة من الفضة هي الثمن العادل للشراء. لم تكن مشكلة باعة الحمام إذًا توفير احتياجات الذبائح ولكن استغلال الفقراء والمعدمين بل والحجّاج إلى الهيكل بشكل عام.
الفئة الثالثة هي فئة الصيارفة. أمام الطاولات الخشبيّة كان يجلس الصيارفة في الفترة ما بين 25 آذار وحتى الأوّل من نيسان. كان عملهم الأساسي هو تحويل العملات إلى الشيكل، وهو العملة المستخدمة في الهيكل. كانت هناك ضريبة يدفعها كلّ يهودي بالغ، كلّ عام، في الهيكل (انظر خر30: 13)، في موعد أقصاه 1 نيسان كما ورد في المشناه (M.Shek. 1.3). كانت قيمة الضريبة هي نصف شيكل. ولكن لأنّ الكثير من الحجّاج يأتون من أماكن مختلفة حاملين معهم العملة اليونانية-الرومانيّة Graeco-Roman، كانت هناك حاجة إلى الصيارفة ليقوموا بعمليات تحويل العملات. لم يبد يسوع اعتراضًا واضحًا على تلك الضريبة، إذ نقرأ أنّه قام بدفع تلك الضريبة، لاحقًا، عنه وعن بطرس بطريقته الخاصّة (انظر مت17: 24-27). كانت المشكلة تكمن في تحويل بيت الصلاة إلى بيت التجارة كما ورد سابقًا في (يو2: 16). ولكن الأمرّ تعدي مجرّد التجارة، لذا نجد الربّ يسوع يرفع من سقف الرفض إلى اتهام قادة الهيكل بأنّه حولوه إلى وكر لصوص أو مغارة لصوص! كما ورد في الأناجيل الإزائيّة (مت21: 13 // مر11: 17 // لو19: 46). هنا يقتبس الربّ يسوع من نبوءة إرميا 7: 11. هذا الأمر يأخذنا للفئة الرابعة.
كان الهيكل يقع في الطريق بين جبل الزيتون والقطاع الغربي من أورشليم، ممّا جعل البعض يستخدم رواق الأمم للمرور عبر البوابة الشرقيّة / البوابة الغربيّة، أي أنّه أصبح بمثابة طريق مختصر short by-path للمرتحلين بين شرق أورشليم وغربها. لقد نهت المشناه عن هذا الأمر، إذ كان لا يجوز استخدام الهيكل كطريق مختصر للحفاظ على قدسيّته وهدوءه (M. Berakoth 9.5). إلاّ أنّ الأمر لم يتوقّف على هذا المرور السلمي، ولكنّه تحوّل إلى الطريق الرّسمي لقطّاع الطرق الذين يمارسون نشاطهم غير الشرعي على طريق أريحا. لقد أشار الربّ يسوع إلى مخاطر طريق أريحا في معرض حديثه في مثل السامري الصالح (لو10: 30) هناك بعض الشواهد تشير إلى أنّ بعض المسروقات كان يتاجر بها قطّاع الطرق واللّصوص في الهيكل!! وهو ما حوّله إلى وكر للصوص!!
كلّ هذا يشير إلى حالة الفساد التي وصل إليها الهيكل، والتي نقرأ عنها في رؤيا أخنوخ، وفي أدبيات قمران أيضًا.
لذا لم يكن غريبًا أن يعلن يسوع عن رفضه لكلّ ما يحدث، وينحاز للصلاة، والفقراء في مواجهة سطوة رأس المال. الأمر لم يكن انفعال وقتي، ولكن مخاض بغير القادرين على أن يلتقوا يهوه في المكان المقدّس، وغير القادرين على تحمُّل أعباء الاحتكار القاسي لمستلزمات الذبائح. لم يكن يسوع ليصمت أمام هذا الأمر. لم يقدِّم لنا يسوع نموذج الإيمان الخانع الصامت المتكاسل المنزوي بعيدًا عن المواجهة. كانت مواجهاته منتقاة بعناية لحساب الإنسان. لم يدخل في مواجهات حزبيّة طائفيّة عبثيّة ترسِّخ من سلطة البعض على حساب الآخر. السلطة التي أرادها متحقّقة هي العدل والرحّمة لذا كانت أكثر مواقفه حدَّة، إن جاز القول، لحساب العدل والرّحمة في تطهير الهيكل.
من فرط الحماس، قد يتوهَّم البعض أنفسهم حافظي الحق والرحمة وحاملي السياط المقدَّسة! ولكن يسوع قد خرج للبريّة ليعلمنا الانتصار على الأهواء قبل أن يرفع السوط في وجه أهواء القادة. لا يمكن لمن لم ينتصر في معركته أن ينتصر لحساب الحق. ستتداخل ذاته مع موقفه، دون أن يدري، لأنّه لم يمت مع المسيح بعد.
قبل أن نفكِّر في رفع سياط طرد باعة الحمام، والصيارفة، والمجتازون بمتاعٍ، وباعة الحمام، علينا أن نرفع سوطًا في قلوبنا على الأهواء التي تعبث بهيكل الله؛ "لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ." (كو3: 17). ما أسهل أن نرتدي قناع حماة الهيكل، ولكن ما أصعب وأشق وأقسى أن نحرّر هيكل قلوبنا من مستوطنات رئيس العالم!
هذا يحتاج كلّ انتباهنا، واجتهادنا، لكيما يأتي ويتعشى في هيكل قلوبنا، ويخبرنا عمّا في قلبه من جهة العالم من حولنا.