هو قائمٌ!!

في اليهوديّة كان هناك توجّهان رئيسيّان فيما يتعلّق بقيامة الأجساد؛ الاتّجاه الأوَّل ويتزعّمه الصدوقيون والأسينيون وهم الذين يرفضون القيامة، يرونها تغييبًا للعقل ومنطقه. أمّا الاتّجاه الثاني فيقوده الفريسيون والذين شكّلوا فيما بعد فكر الرابيين، وهم يؤمنون بقيامة الأجساد .. « لأنّ الصدوقيين يقولون إن ليس قيامةٌ ولا ملاك ولا روح وأمّا الفرّيسيون فيُقرّون بكلّ ذلك » (أع 23:  8)

لقد اعتقد الرابيون، أنـّه لكي يكون لليهودي نصيب في القيامة في مُلك المسيّا على الأرض، يجب أن يُدفَن في الأراضي المُقدّسة، حتّى إنّ البعض علّم بأن أجساد الأبرار سوف تتحرَّك تحت الأرض عائدة إلى إسرائيل لتقوم هناك!!

والمكان الأمثل لدفن موتَى اليهود هو وادي قدرون، والذي يعتقدون أنـّه هو وادي يهوشافاط، الواقع عند البوابة الشرقيّة لأورشليم. من هناك ستنطلق أبواق القيامة العامّة، هكذا يعتقدون حتّى الآن.

عند الفريسيين، كما يكتب يوسيفوس، المؤرِّخ اليهودي الأشهر في كتابه “آثار اليهود القديمة”؛ “النفوس بها حيويّة ونشاط لا يطاله الموت .. وسوف تمتلك (النفوس) السلطان لتستعيد الحياة من جديد”. ولكن قيامة النفوس ترتبط بالتناسخ كما يكتب يوسيفوس أيضًا في كتابه “الحرب اليهوديّة” إذ يقول: “إنّ كلّ النفوس غير قابلة للفساد، إلاّ أن نفوس الأبرار تدخل في أجسادٍ أُخرى (التناسخ)، بينما نفوس الأشرار تتعرّض للعقاب”. وفي الصلاة التي يتلوها اليهودي عقب الاستيقاظ من النوم، يقول:

ربّي،

إنّ النفس التي منحتني إياها طاهرة،

أنت خلقتها .. أنت شكّلتها،

أنت الذي نفخت فـيّ نسمة الحياة ..

وسوف تأخذها مني أخيرًا وتُعيدها إليّ في الدهر الآتي ..

أنت مُسبّح أيّها الربُّ،

يا مَنْ تُعيد النفوس للأجساد المائتة.

يقول أحد العلماء وهو دكتور فرنر فون براون Wernher von Braun: “إنّ العلم وجد أنـّه لا يوجد ما يُسمَّى بالانقراض بمعنَى التلاشي، فلا شيء يختفي دونما أثر. فالطبيعة لا تعرف سوى التحوُّل ... ومن غير المنطقي ألاّ ينطبق هذا القانون على النفوس أيضًا”.

هذا هو سِرُّ القديس بولس الذي أفضَى به إلى الكورنثيين في إصحاحه الخامس عشر وبالتحديد في العدد الحادي والخمسين؛ « هوذا سِرٌّ أقوله لكم: لا نرقد كلّنا ولكننا كلّنا نتغيّر ». وهو السرّ الذي تحفظه الكنيسة في قلبها .. تترقّبه مع بزوغ كلّ فجرٍ جديد ..

ولكن، إلى ماذا سنتحوّل؟ مَنْ سنكون حينها؟

ولكي نفهم التحوُّل، في صورته النسبيّة، نستعير الكلمات التالية من فرنسوا فاريون: “ليست الفراشة دودة كبيرة، لأنّ النمو لا يكون أبدًا مُجرّد كِبَر. فلو كان للدودة وعي وكنت أستطيع أن أخاطبها .. لسألتها بماذا تحلُم؟ لا شكّ أنـّها ستجيبني، بوجهٍ أسطوري، إنـّها تحب أن تكون أكبر دود الغابة، ومَلِكة الدود، تلك التي تستطيع أن تملُك، بفضل حجمها ووزنها، على سائر دود الغابة. يُسمَّى ذلك إرادة قوّة، وما هو إلاّ المزيد على الوضع الحاضر، دونما أي تحوُّل. لا تعلم الدودة بأن عليها، لكي تصبح ما يجب أن تكون، أن تتخلَّى عن جسدها الدودي وأن تُعطَى جسمًا جديدًا، إذ لا وجود لها إلاّ لتُصبح فراشة: هذه هي دعوتها. ولن تكون ما يجب أن تكون إلاّ يوم أن تصبح فراشة”.

إنّ دعوتنا هي سُكنَى الخلود في ملكوت ابن الله .. دعوتنا أن نتحوَّل من كائنات تتنازع على البقاء إلى كيانات تبغي العبور حيث الديمومة الأبديّة. دعوتنا أن نصير شركاء المجد الإلهي؛ هناك سيلبس الفاسد عدم فساد، والمائت سيرتدي عباءة عدم الموت، والناقص سيتزيّن بالاكتمال .. والزمني سينعَم بالخلود .. وسينفض الترابي غبار خلقته الأولى .. سنتغيّر إلى صورة المسيح عينها، صورة الابن البـِكر، القائم من عالمنا لمجد أبيه. تلك وعودٌ كتابية يستند عليها رجاؤنا في الدهر الآتي والحياة الأُخرى.

                         أنا هو القيامة والحياة [يو 11: 25]

إنّ الربّ يسوع ليس قائمًا فحسب، ولكنه النبع الذي نرتشف منه لنقوم، هو القيامة في أصلها ونقائها، ومَنْ يُطعَّم في الأصل يقوم معه وفيه.

لقد قرَّر أحد الجرّاحين الفرنسيين ويُدعى مارك أوريزون أن يترك الطبّ ويقبل دعوة الكهنوت لا لشيء إلاّ لأنـّه كان يرى كلّ يوم الناس يموتون ويتوقّفون عن الحياة، فكان قراره أن تكون قدّاساته في “حضن شمول الموت”، لكيما تكون القيامة حاضرة، في قلب عالم يزول فيه كلّ شيء ..

إنّ مَنْ يدخل في المسيح ويتأصّل فيه، تلمسه قوى القيامة، فلا يرى الموت الثاني. يصبح الموت له سحابة صيف عابرة .. غيمة من غيمات الشتاء لا تحجب شمس القيامة الساطعة.

لقد كتب أوريجانوس في شرحه للرسالة إلى أهل رومية، قائلاً:

إنّ النباتات تنتظر قيامة الربيع بعد موت الشتاء.

لذا، فإن كنّا مغروسين في موت المسيح

في شتاء هذا العالم وتلك الحياة الحاضرة،

سنُوجَد في الربيع الآتي

حاملين ثمار البر من هذا الأصل

إنّ القيامة رجاء الطبيعة، لتجتاز الموت وأشباهه وظلاله. الموت والشتاء هما قانون الطبيعة المنقوش على أحجار مصير الخليقة منذ السقوط. كلاهما انكماش .. تراجُع .. غياب .. نضوب .. وما من غياب لا يثير فينا الألم والضيق.

المسيح قيامة، وكلّ مَنْ أراد القيام من سقطته وانطراحه عليه أن يُلاقيه بالإيمان اليومي المُتجدِّد، وقتها سيكون له شركة في ثمر القيامة الربيعي في الدهر الآتي.

كتب الشاعر النمساوي الشهير راينر ماريا ريلكه، عن قيامة الربّ وما تُمثــِّله لمريم المجدليّة تلك التي أحبّت المُخلِّص حبًّا حتّى الصليب. وهناك رأت سيّد الكون مُثبَّتًا بلا حراك، ولكن موته لم يمنع تعلُّقها بالمُخلَّص .. ذاك الذي حرّرها سابقًا. ذهبت لقبره تندب على قسوةٍ نشبت مخالبها في جسده الطّاهر، فرأته قائمًا ليعبر بها وبكلّ مَنْ قَبـِله قائمًا في قلبه، إلى ملكوت الآب ..

حتّى النهاية لم يفكِّر بأن يعيقها أو يمنعها

من أن تنال من حبّها له مجدًا؛

أسفل الصليب سقطت، متلفّعة بآلامها وبأروع حُلي المحبّة

فيما بعد، عندما جاءت لتعطير قبره، سابحة الوجه بالدمع،

نهض من أجلها من موته،

ليقول لها، بصحوٍ أكبر: لا تمسكيني

المسيح على الدوام ناهض وقائم من أجل مَنْ يشتعلون حبًّا من نحوه، لذا فتوبتنا لن تكتمل إلاّ إذا كانت توبة قياميّة؛ تنهض بالمسيح وفي المسيح وللمسيح. وصلاتنا لن تتحرّر إلاّ إذا كانت صلاة قياميّة منجذبة إلى وميض القيامة المنبعث من حضور الله المُتسربل بالضياء كثوبٍ. كذلك صبرنا على مضايقات الجسد والعالم والشيطان لن يتجدّد إلاّ إذا كان متوكّئ على رجاء القيامة، أي أنّ مسيحيتنا كلّها مرهونة بإيمان القيامة الذي يلمس كلّ موت فينا ليُنهِضه من جديد. فلو لم يكن المسيح قام، فباطلة هي بُشرَى الخلاص، وباطل هو الإيمان بالمُخلِّص، نحن بعد في خطايانا منطرحين!!! ونبقَى « أشقَى جميع الناس » (1كو 15: 19) كما يكتب القديس بولس بمرارة الألم.

القيامة هي لُغة المسيحيّة الحقيقيّة مهما كانت مسار سخرية العالم .. هي شهادة الكنيسة .. نبع أفراحها .. نغم تهليلها .. أنشودة تسبيحها .. لحن رجائها.

ولكن، هل لا زلنا نشهد بقيامة الربّ يسوع، بقوةٍ، كما الرسل؟؟ (راجع: أع 4: 33) هل لا زلنا نُضجِر، كما الرسل، قيادات العالم بندائنا في الربّ يسوع بالقيامة من الأموات؟؟ (راجع: أع 4: 2).

ليتنا نكون ..