كيرياليسون

حينما سُئل القديس مكاريوس الكبير حول الصلاة، أجاب القديس اللاّبس الرّوح:

لست في حاجة لأن تستخدم كلمات كثيرة، ولكن يمكنك أن ترفع يدك نحو السماء وتقول: ’يا ربّ كما تشاء، وكما تعرف، ارحمني‘. وإن اشتدت الحرب واستعرت نيرانها يمكنك أن تصلي وتقول: ’أعنّي يا ربّ‘. إنّه يعرف جيّدًا حاجاتنا، وهو قادر أن يسبل علينا الرّحمة.

في التقليد اليهودي هناك صلاة تقال في ليلة يوم كيبوريم (يوم الغفرانات / يوم الكفّارة)، تسمّى Kol Nidre وتعني كلّ النذور. في تلك الصلاة (هي صلاة بمسحة رثائيّة) يصلّي اليهود معلنين أنّهم لن يحافظوا على أيّة عهود قد اتخذوها، وأنّ كلّ العهود التي اتخذت أو ستتخذ ما بين يوم كيبوريم الحالي ويوم كيبوريم التالي، ليست ذات قيمة. هم يدعون الله لكي لا يصدّق عهودهم ووعودهم!!

تاريخيًّا يقال إنّ تلك الصلاة كانت نتيجة الاضطهاد الذي تعرّضوا له ممّا أدى إلى نكوثهم بالعهد! هي صلاة تعبّر عن الواقع الإنساني الضعيف والخائر والمتقلّب والمهتز. هي صلاة تُصَلَّى للاعتراف بالواقع الإنساني، ومن ثمّ تطلب المغفرة والرحمة للضعف الإنساني.

ولعلّ موقع تلك الصلاة في الليتورجيا اليهوديّة ما قبل يوم كيبوريم يشير ضمنًا إلى الاحتياج للغفران الإلهي للواقع الإنساني. يوم كيبوريم هو يوم الغفرانات حيث كان هارون يضع يده على رأس التيس ويقرّ بكل ذنوب بني إسرائيل، وكلّ سيئاتهم وكلّ خطاياهم والذي يطلق في البريّة كتعبير عن الإطلاق والتحرّر من الذنب (لا16: 21). في نهاية يوم كيبوريم يصلّي اليهود قائلين: ”من أجل كلّ تلك الخطايا، يا إله الرحمة، اغفر لنا، واصفح عنا، وقرّر لنا المغفرة.“

وَتَجَسَّد المسيح، وأعلن لنا الكتاب أنّه دخل إلى المقادس العُليا بدم نفسه، فوجد فداءً أبديًّا، ونضح بدم العهد الجديد على الضمائر ليُطَهِّرها من الأعمال الميّته، لخدمة الله الحي (عب9). ويبقَى السؤال، هل نحتاج لنداءات الرحمة بعدما قَدَّم المسيح غفرانًا لخطايانا جميعًا؟!

في البداية علينا أن ندرك أنّه لطالما زيّنت نداءات الرحمة الصلوات اللّيتورجيّة المسيحيّة بمختلف أشكالها وأنماطها على مرّ العصور. تباينت الصيغ مثل: كيرياليسون، ارحمنا كلّنا معًا، شعبك وبيعتك يطلبون إليك، ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، ارحمنا يا الله ثمّ ارحمنا … إلخ. كلّها صلوات تنطلق من مركز واحد وهو الاحتياج لله. تلك الصلوات هي بمثابة إعلانات قصيرة ومباشرة يعلن من خلالها الإنسان أنّه لا يمكنه أن يكتفي بذاته، فهو في احتياج لآخر (الله) ليتدخّل ويسكب مراحمه التي تُمَكِّن الإنسان من استعادة بصيرته المفقودة أو المشوَّشة أو المشوَّهة.

ولكن أولاً، لن نتمكَّن من استيعاب المعنى الغني والمُتَّسِع لنداء كيرياليسون دون أن نرجع خطوة للوراء لمعرفة الكلمة اليونانيّة والتي تشير إلى الرحمة. إنّ المقطع الأوّل ”كيريا“ κύριε من الكلمة ”كيريوس“ κύριος والتي تعني ربًّا/سيّدًا، بينما المقطع الثاني من الكلمة هو إليسون ἐλέησον (من إليوس ἔλεος) وتشير إلى الرحمة. إنّ كلمة إليسون تشير بشكل عام في القواميس إلى ما يمكن أن يحمل دلالة التعاطف والرأفة والرّحمة، إلاّ أنّ الكلمة العبريّة المكافئة لكلمة إليسون والتي نجدها في العهد القديم لها دلالة أكبر من هذا. الكلمة هي חֶ֔סֶד [ حِ سِ د ]. إنّ [ حِ سِ د ] لا يمكن ترجمتها في كلمة واحدة؛ إذ سيكون ذلك إخلالاً بالمعنى الغني الذي للكلمة.

يمكن أن نستحضر دلالة كلمة [ حِ سِ د ] من خلال رصد ثلاثة خطوط لمسارات المعنى؛ تتقاطع معًا، أو ثلاثة أبعاد للمعنى؛ ترسم صورة ثلاثية الأبعاد لغنى معنى هذه الكلمة. فالكلمة تحوي معنى الثبات steadfastness والقدرة strength والحبّ love معًا. تُتَرْجَم الكلمة في العديد من الترجمات الإنجليزية بـ loving-kindness أو المحبّة الشفوقة / المحبّة الرؤوفة.

إنّ كلمة [ حِ سِ د ]  من الكلمات التي كانت تستخدم في سياق الحديث عن علاقة الله بشعبه؛ علاقة يهوه بإسرائيل. تباينت ترجمة الكلمة في العهد القديم ما بين اللّطف والمعروف والإحسان، وذلك في الترجمة العربية البيروتية (انظر: تك24/ 12؛ 40/ 14؛ 47/ 29؛ خر20/ 6؛ 34/ 6 ... إلخ)، ولكن حتى تلك الكلمات لم تكن كافية لتعلن معنى الكلمة الغني. إنّ دلالات المعنى تتخلَّق في معظم النصوص في دائرة العهد بين الله وشعبه. في العهد نرصد استمراريّة العلاقة بين الله وشعبه، ومركزيّة تَعَهُّد اللّه لشعبه بالرأفة والعون (الحبّ) في تلك العلاقة، ومن ثمّ قدرة هذا الحبّ اليهوي (من يهوه) لشعبه على صناعة الرابطة بينه وبين الشعب، بل وتجبيرها واستعادتها حينما يميل الشعب بعيدًا عن متطلبات العهد.

ولكن ما الذي يعنيه هذا في صلواتنا حينما نصلي: كيرياليسون؟

أوّل شيء، إنّ طلب الرّحمة ليس بمثابة طلب عفو ملوكي كالذي كان يقوم به الملوك والأباطرة للمواطنين المدانين، وذلك في بعض المواسم والمناسبات، والذي يقف فيه الملك باستعلاء ويقول عفونا عنك!! الأمر ليس كذلك على الإطلاق!! وذلك لأنّ العلاقة بين الله والإنسان - في العهد الجديد - في المسيح، من بعد تجسُّد الله، صارت علاقة كيانيّة؛ أنا فيكم وأنتم فيّ (يو14: 20). فنحن لا نطالب الإله البعيد بعفوٍ سيادي ملكي، ولكن نناجي الآب أبانا، في ابنه المخلِّص، بالروح الساكن فينا، ليسكب مراحمه؛ أي لطفه وإحسانه وحبّه علينا، وهو الأمر القادر أن ينتشلنا من بؤس الخطيئة والتشتُّت والتيه الذي نعاني منه. لقد كانت الـ [ حِ سِ د ] قديمًا تتم من خلال وساطة بين الله والشعب ممثلة في الأنبياء والملوك والكهنة، إلاّ أنّه في العهد الجديد صار حبّ الله ورحمته مسكوبًا على كلّ إنسانٍ دونما وسيط لأنّ الوسيط الواحد بين الله والنّاس صار هو يسوع المسيح (1تي2: 5).

إنّ الرحمة الإلهيّة [ حِ سِ د ] تُسْتَعْلَن أبجدياتها الأولى في حياتنا من خلال إمكانيّة إقامة العهد بين الله والإنسان بعد أنْ قَدَّم المسيح خلاصًا كافيًا للعالم أجمع. لقد صار المسيح هو الضامن لعهدٍ أفضلٍ لنا (عب7: 22) قد استُعْلَن في موت/قيامة المعموديّة بشكل شخصي، والتي ليست بمثابة إزالة وسخ الجسد، ولكن سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح (1بط3: 21)، ومن خلال المسحة المقدّسة صارت لنا شركة الروح القدس (2كو13: 14) بسكنى إلهيّة سريّة. تلك العلاقة المبنية على العهد تتثبَّت من خلال الحضور الإفخارستي والذي يجعل من تجديد العلاقة الاتحاديّة بين الله والإنسان في المسيح ممكنة في واقع الإنسان الحسي، ومن هنا يمكن أن نستوعب كلمات المسيح أنّ ملكوت الله داخلنا (لو17: 21)، هنا والآن. لذا حينما نصلي بالكيرياليسون، نحن نعلن أنّنا في دائرة العهد والعلاقة نترجّى معاينة الرأفة الإلهيّة الثابتة والقادرة والنابعة من علاقة الحبّ العهدي بيننا وبين الله.

إنّ الكيرياليسون تذكّرنا بثلاثة أمور خاصّة بالله تساعدنا في طلب الرّحمة وهي:

- الثبات؛ فالله لا يتغيّر إن تغيّرنا نحن.

- القدرة؛ فالله القدير يستطيع أن ينتشلنا من أيّة حفرة قد نسقط فيها مهما كانت عميقة.

- الحبّ؛ فالمحبّة الإلهيّة الفائضة باللطف نحونا لن تتوقّف يومًا مهما تمرَّدنا عليها، فالله أمين وإن كنّا غير أمناء.

لذا فصلاتنا بالكيرياليسون تعلن فيما تعلن أننا مازلنا نؤمن بأمانة الله غير المتغيِّرة، ومحبَّته الثابتة، وقدرته غير المحدودة، ولهذا نتوجّه إليه. فهو الذي يملك أن يعطينا ما هو لحياتنا، وهو الذي يستطيع أن يعطينا ما هو لحياتنا.

حينما كان الربّ يسوع سائرًا مجتازًا السّامرة والجليل، وهو على مشارف إحدى القرى، لاقاه مجموعة من البرص، صارخين: يا يسوع، يا معلّم، ارحمنا (إليسون إيماس) ἐλέησον ἡμᾶς (لو17: 13). إن لم يؤمنوا أنّه يستطيع أن يغيّر حياتهم من خلال الشفاء لما كانوا صرخوا، ونادوا عليه طالبين الرّحمة. لذا فحينما نصلي بالكيرياليسون فنحن نوقن في قدرة هذا الذي نقف في محضره لذا نناجيه باستماته؛ لأنّه هو الذي يملك تلك القدرة الإلهيّة. فقدان هذا الإيمان بمَنْ نقف أمامه يضعف من الكيرياليسون التي نصليها. علينا أن نؤمن ونصدِّق أنّه يستطيع، وأنّ استطاعته تُسْتَعْلَن بحسب تدبيره الإلهي المَليء بالعطف والمحبّة الصادقة وغير المتغيّرة لنا.

لنقف أمام محبّته وعمله دائمًا مصلين:

أمين ... كيرياليسون ...