قد سمعنا

يقفُ الكاهنُ أمام المَذْبَح في القُدّاسِ مُصليًّا؛ ”فَلْنَسْتَحِق أنْ نَسْمَع ونَعْمَل بأناجيلِك المُقَدَّسة بطلبات قدّيسيك.“ يبدو من هذه الصّلاة أنّ السَمْعَ عَمَلٌ مُقَدَّسٌ يَتَطَلَّب استحقاقًا! ولكن كيف؟

لقد اعتدنا أنْ يكون السَّمْعُ فعلاً سلبيًّا. نجلسُ وسطَ الجموعِ لنستمع إلى كلمةٍ روحيّةٍ أو عظةٍ أو محاضرةٍ. وأحيانًا نَقِفُ حينما نستمع إلى الإنجيل المقدس وتكون القراءة منه في اللّيتورجيّة. الثقافةُ السَّمْعِيَّةُ التي تجتاح العالم جعلت من السَّمْعِ فعل استلقاءٍ خاملٍ. نَسْتَمِع إلى الكثير لنَخْتَرْ ما يوافقنا. نَسْتَمِع في لامبالاةٍ حتى يأتي ما يُحَرِّك مَشَاعِرنا أو يَسْتَنْزِل دموعنا أو يَرْفَع صرخاتنا ... إلخ. نَسْتَمِعُ في بحثٍ عن جديدٍ لنَتَخَلَّص من شَبَكَةِ المَلَلِ التي تُحيط بّنا. نَسْتَمِعُ طمعًا في مغامرةٍ جديدةٍ لعَلَّها تُحَرِّك بعضًا من الأدرينالين الرَّاكد في أجسادنا وتشعرنا أنّنا لازلنا على قيد الحياة. نَسْتَمِعُ بحثًا عن لُغةٍ ترضينا وتُثَبِّتُ رغباتنا وطموحاتنا وأحيانًا أخطائنا وخطايانا. لقد أَمْسَى العالم اليوم أُذَنًا كبيرةً لا تَكُف ولا تَشْبَع من السَّمع وهي في نهمٍ دائم للمزيد والمزيد .. ولكن لا شيء يَتَغَيَّر.

يبدو أنّ هناك كنزٌ علينا اكتشافه معًا في كلمات السامريين للمرأة السامريّة التي كانت قد بَشَّرتهم بالمسيّا. لقد كَتَبَ القّديس يوحنّا على لسانهم: ”إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ“ (يو4: 42). في بادئ الأمر، استمعوا لكلمات المرأةِ كالمعتاد. لقد أرادوا فقط أنْ يَكْتَشِفوا أمرًا جديدًا وخاصّة حينما يكون من الجانب اليهودي الذي اعتاد العداء. كان الشّغف للاستماع لكلّ ما هو جديد من سِمَاتِ أهل أثينا والذين كُتب عنهم: ”أَمَّا الأَثِينِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُسْتَوْطِنُونَ فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئاً جَدِيَدًا“ (أع17: 21). هذا النّوع من البحث هو سلاحٌ ذو حدّين؛ إمّا أنْ يَجْعَلَ الإنسانَ يحيا في دائرةٍ أفقيّةٍ يَجُوبُ الآفاقَ بحثًا عن جديدٍ بشكلٍ دائمٍ دون الدخول إلى الحقيقة .. دون الدخول للعمق في الجديد الذي تَعَلَّمه بالفعل، وإمّا يكون حافزًا لَمْن وجد أنّ ما اعتاد عليه يستثير الكثيرَ من التساؤلات التي يجب على الإنسانِ أنْ يَسْعَى ليَجِد لها جوابًا، هنا يكون البَحْثُ عن الأمر الجديد هو بحثٌ عن إجابةٍ بعيدًا عن لامنطقيَّة الأجوبة التي طالما استمع إليها واعتادها وتَكَيّف مَعها. يبدو أنّ السامريين كانوا من النوع الثاني. لعلّهم قد سمعوا أولاً عن المسيح ببرودة الاعتياد وبالقليل من الشّغف للبحث عمّا هو جديد. على أنّ الدافعَ لتحرُّكهم قد يكون هو نداءُ المرأةِ التي قابلته وتأثَّرت به بشكلٍ لافت للنظر. بيدْ أنّهم حينما تقابلوا وسمعوا من المسيح تَغيَّر الأمر من الشغف للجديد، للرغبةِ في التبعيَّةِ. هنا انتقالٌ من دائرةِ الأفكارِ والملاججاتِ والمباحثاتِ النّظريّةِ إلى واقعِ تبعيّة الربّ يسوع. إنّ العهد الجديد حينما يتحدَّث عن الحق، بحسب تعبير توم رايت (في كتاب:Creation, Power and Truth)، فإنّه لا يتحدَّث عن أمرٍ نعرفه أو أمرٍ نقوله ولكن عن أمرٍ نقوم به. تلك الحركة بالتبعيَّة دائمًا ما تنبت من الاستماع المباشر لا من الاستماع بالإنابة. لقد تحاور شعب السّامرة لاحقًا مع السامريّة مُؤكّدين لها أنّ إيمانهم بأنّ يسوعَ هو بالحقيقة المسيح مُخَلِّص العالم ليس فيما بعد نتاج ”استماع عن“ ولكن ”استماع إلى“. كلّ ”استماع إلى“ هو مرحلةٌ أَوَليّةٌ لا يمكنها أنْ تُنْشِئ علاقة حقيقيّة وصادقة مع المسيح. إنْ لَمْ نبدأ في الوقوف أمام ذاك الذي طالما سمعنا عنه، منادين فيه بالتّحَدُّث إلينا، لنستمع إليه، لن يُمْكِنَنا أنْ نَعْرِفَه بالحقِّ، ولنْ يُمْكِنَنا أنْ نتبعه بالصدق، ولن يُمْكِنَنا أنْ نترك من أجله بالتمام والكُليَّة. السواد الأعظم من العالم ضالٌ عن الحقيقة لأنّه يتوقّف عند ”الاستماع عن“. العالم الآن يُسَلِّم عَقْلَه لمناظرات الأفكار حول تلك الشخصيَّة الفريدة المُسَمَّاه ”يسوع“! لا يتحرَّك بجديّة .. برغبة صادقة .. بنية مخلصة لتحمل تبعات ”الاستماع إلى“. الاستماع إلى الربّ يسوع مُكلِّف! قد يكلفنا الاستماع إليه أنْ نَتْرَك ما نَعْتَقِدَ أنّه نافعٌ لنا، لنَسير على طريقٍ لا نرَى فيه - في الكثير من الأحيان - إلاَّ طيفه الآسر وكلماته المطلقة من خلف الغيوم. مَنْ يَسْمَع عنه لن يحتمل تبعيّةَ صوتٍ من خلف الغيومِ. سيَتَمَزّق من الشّكِ كل يومٍ. فقط مَنْ استمع له يمكنه أنْ يَتَيَقّن من الصوتِ الإلهيِّ وإن كان من خلف الغيومِ ... ويَتْبَع.

حينما يُصَلّي الكاهن فإنّه يتضرَّع أنْ ننال جميعًا استحقاقًا بمراحمَ إلهنا الفائضةِ أنْ نَسْمَعَ ونَعْمَلَ بالإنجيل. كُلْفَة الاستماع الصادق هي القيام للعمل. هذا الأمر يتّضح في علاقتنا بكلمة الله. إنْ تَطهَّرت قلوبنا، بالروح، لبذار الكلمةِ أَثْمَرَت عَمَلاً في أعماقنِا وفي عالمِنا، يشهد فينا وبنا أنّ يسوع هو المسيح مُخَلِّصَ العالم ... ومُخَلِّصي ...

لذا من الضروري أنْ نَفْطِمَ عقولنا عن رغبة البحث عمّا هو جديد، لنَنْضُج باحثين وضارعين لنَحْصُلَ على ما هو أصيلٌ وما هو جوهريٌّ وما هو حقيقيٌّ وما هو ضروريٌّ لنا ولملكوت الله. علينا أنْ نَتَحَرَّك ونسعَى ونجتهد بنشاطٍ؛ فالمَجد لنْ نَكْتَسِبه إنْ تَوهَّمنا أنّنا يمكن أنْ نخلُص ونَتَغَيَّر للأفضل عن طريق الرّاحة والاستمتاع، كما كتب القديس كيرلس الكبير. فالفوز، بحسب كلماته، لن يكون من نصيب المُصَابين بمرض الخمول، بل من نصيب أولئك النّشطاء والمستعدين (السجود والعبادة بالروح والحق، المقال 4). النّشاط يكون في قبول النعمة والاستعداد للمتاجرة والرّبح لملكوت الله ثلاثين وستين ومائة.

قد نَسْتَمِع إلى ما كنّا سمعناه قبلاً وتجاهلناه لأنّنا اعتدناه، ولكنْ سيبدأ الروح يُدَرِّبنا على اكتشاف الكَنْز فيما يبدو معتادًا لنا من الكلمة الإلهيّة ويدرّبنا على تحويلها إلى نصرة يوميّة في صراعنا الرّوحي.

لنْ تنضب الكلمة في وجوهنا. لن تُسْتَهْلَك وتَفْقِدَ بريقها إلاّ فيمَنْ دَخَلَ إلى مِحرابها ببرودة الاعتياد وبلامبالاة التوقُّع المُسْبَق. علينا أنْ نُصَلِّي لنتأهَّل لندخل للكلمة، ونستمع للكلمة، ونخضع للكلمة، ونتوب بالكلمة، ونبكي من سوط الكلمة، ونفرح بتعزيات الكلمة، وننطلق بدفع الكلمة، وننقي دوافعنا على هدي الكلمة، ونستبصر طريقنا على مصباح الكلمة ... فالكلمة هي صوتٌ من يسوع لنا. ليت البُوق المُدَوِّي المُنْبَعِثُ منّها يجد آذانًا مفتوحة لتَمُرَّ الكلمة منها إلى إنساننا الداخلي، لتُنَقّي. وقتها سيكون نشيدُ هُتَافَنا في العالم: نحن قد سَمِعْنا ونَعْلَم أنّ هذا هو بالحقيقة المسيح مُخَلِّص العالم. وحينما يرى العالم أُناسًا يَشْهَدون لمَنْ سمعوا له، لا لمَنْ سمعوا عنه، ستتغيّر أمورٌ كثيرة. سَتَخْفِقُ قلوبٌ عديدة حينما ترى لمَعَان نعمة الحديث معه جليّة في وجوهِ مَنْ وقوفوا أمامه واستمعوا له.