إنّ الحديث عن العذراء يقودنا تحليقًا بالروح حول تلك البقعة التي تجلّى لنا فيها الحبّ بشكلٍ يفوق كلّ تصوُّر .. إنّها تأخذنا إلى مَوَاطِن الحنين القصوى، إلى البقعة العَبِقَة بالسرّ، إلى تلك القرية التي نترك على أعتابها كلّ مرتكزات ذواتنا، كل زيفنا، كلّ أقنعتنا، كلّ ما توهّمنا أن يضيف إلينا، أو يُجَمِّلنا في أعين الآخرين. هناك في تلك الغرفة الصغيرة، في ناصرة الجليل، حيث فَجْر البُشْرَى يلوح، والكلمات تطفر من فم الملاك لتهنأ بين ضلوع مريم الفتاة وقلبها الخافق بحبٍّ نادرٍ.
كلمات البُشْرَى كانت لها فرحٌ وحيرةٌ. استمرت نبضات الفرح تجدِّد اشتياق الحبّ في قلب الفتاة، ومعها التساؤلات المكتومة والمؤمَّنة بالخضوع. وهناك أمام المزود الخشبي البالي، في بيت لحم يهوذا، تحوَّلت البُشْرَى إلى واقع مرئيٍّ محسوس.
أمام المزود الخشبي نستشعر بأجواء الصمت المفعم بالسلام .. بخشوعٍ .. بحيرةٍ .. بفرحٍ .. بتساؤلٍ .. هناك تجسيدٌ لحالة الإنسانيّة المتشوِّقة والمتسائلة ولكنّها تضع بخور الحيرة في صمتٍ مقدّس على جمر الحضور الإلهي.. وتنتظر.
هذا المشهد يقفز من الذاكرة إلى الوجدان مُحَرِّكًا الحنين المُقَدَّس والشوق العارم والرغبة في السجود أمام طفل المزود حينما نذكر اسم مريم لو عابرًا ..
نخجل من الكلام أمامها؛ فصمتها يبكت محاولاتنا للتعبير عن أنفسنا وعن قناعتنا. أمامها نفقد الرغبة في الثرثرة، ونشعر أنّ الكلمات جوفاء وضعيفة ومُنْهَكَةٌ ومُنْهِكَةٌ أمام الحقيقة. إنّ صمتُ العذراء دائمًا يتحدّى كلماتنا. لن تُبَكِّتنا، فهي دائمًا رقيقة. إلاّ أنّ نظرة إليها تجعلنا نخجل من ثرثرتنا، لنُحِبُّ في صمتٍ، لنَتَذَوَّق حقائق الدهر الآتي.
إنّ وجهَها رِقَّةٌ ملكوتيَّةٌ وقلبُها مُتَّسعٌ باتّساع الحضن الذي احتضن الإله. عيناها الواجمة تحملُ هَمَّ البشريَّة، إذ عاينت تلك الأعين، وليدها، وهو يحمل هَمَّ البشريّة بشكلٍ فائقٍ. إنّها تلك الأم لكلّ الأحياء[1] التي تأمل دومًا أن تُقَرِّب الجميع إلى عرش ابنها وربّها.
كثيرًا ما هَمَمْتُ أن أكتب عنها، إلاّ أنّني دائمًا ما كنت أجد القلمَ مُتَحَجِّرًا مع أنّه في شوقٍ أن يُمَجِّد تلك التي هي أعظم من السارافيم وأجلّ من الشاروبيم. في الوقت ذاته أجد القلب يتحرّك بعيدًا عن القلم وهو مدفوع بلهب الشوق لتعظيم ملكة السماء، فيبدأ في ترتيل إحدى الثيوطوكيات الرائعة لترتاح النفس في أحضان سرّ التجسُّد الفائق. كلُّ كلمةٍ أردت أنْ أَضَعْها على وريقاتٍ، كنت أجدها تفر من الورق لتصبح شوقًا يدفعني للوقوف أمام أيقونتها الرقيقة، فأشعر بحنو الأمومة وجلال الملكة[2] بآنٍ معًا. ليس من مرةٍ ناجيتها إلاّ وشعرت بالدفء يملأ كياني، فهي كما قال المُسَبِّح: ”بالحقيقة فرح المؤمنين“.[3] أخاطبها، فإذ بالروح فرحٌ في قلبي. كان هذا دائمًا مبعث تعجبي الدائم. إلاّ أنّ المُسَبِّح أشار إلى أنّ مريم هي الصنارة العقليّة التي ترفع قلوبنا إلى العلاء، وتُعَلِّمنا السّجود للثالوث المحيي.[4] إنّ تطويب والدة الإله أشبه باحتفالية أو بحسب التعبير المُبْدِعُ الذي للمُسَبِّح؛ ”عيدٌ بتوليٌّ“[5] يدفعنا دفعًا للاشتراك في موكبِ مَدْحِ والدة الإله .. يدفعنا إلى رفع أزاهير التطويب إلى تلك الأم الحنون. أليست هي أورشليم الجديدة، مدينة إلهنا، والتي يفرح فيها جميع القديسين؟[6]
إنّ محضرها عَطِرٌ، إذ هي البستان الذي فاحت منه رائحة التجسُّد. مَنْ يريد أن يرتشف من ماء الحياة يتذكّر على الفور ذاك الينبوع الذي تفجّر منه ماء الحياة المقدّس،[7] فيُسَبِّح الله على هذا البستان وذاك الينبوع.
في محضرها يُحَلِّق الطُهْرُ، فيخجلُ الإنسانُ من ذاته حينما تراوده أيّة أفكار لا تليق بأبناء الله. نقف أمام طُهْرِ البتول فنشتاق للطُهْرَ. لذا، على مرّ العصور، اندفعت جموعٌ كثيرٌة نحو المُخَلِّص وقد أَلْهَمَهُم طُهْرُ مريم، إذ قدّمت لابنها شعبًا كثيرًا، فقط من خلال طهرها الفائق.[8] إنّها المركبة الشاروبيميّة[9] التي حَمَلت لنا نَسَمَة من عوالمٍ أخرى، فهي التي جلبت إلينا نسيم الحريّة الأبديّة[10] الذي تنسَّمْناه، فحيينا. اسم الخلاص كان مُحْتَجَبًا عن الواقع البشري؛ يظهر أحيانًا كنبوّة غامضة على لسان نبيٍّ مُضطهدٍ ومُلاحَقٍ من قومه، حتى قَبِلَت تلك الفتاة الرقيقة ذاك الحَبَل المُقدَّس بكلّ تبعاته المؤلمة، فدلّتنا على اسم الخلاص .. على اليوتا الحقيقة[11] .. على يسوع المسيح.[12]
إنّ استعلان الله في عالمنا بالتجسد أشبه بمطرٍ غزيرٍ قد عانق أرضنا البور المقفرة المُشَقَّقة، وكانت مريم هي تلك السحابة الرقيقة الخفيفة التي دلّتنا أنّ رذاذ المطر بدأ في الانهمار، وأنّ استعلان الإله الوحيد سيَغْمُرُ كلّ أرضٍ.[13]
أمامها يَنْعَقِدُ اللّسانُ، إذ أنّ الفتاةَ القرويةَ التي لا يَعْبأ بها أحدٌ، السّاكنة في إحدى البقع الفقيرة، في بلدٍ مُسْتَعْمَرٍ، تَسَرْبَلت بمجدِ اللّاهوت،[14] دون أن تحرقها نار اللاّهوت،[15] وقد صارت مشتملة بمجد ربّ الجنود،[16] بل وصارت عرشًا ملوكيًّا لذاك الذي تحمله الشاروبيم[17] في رعدةٍ. يقف التاريخ بشموخٍ أمام العظماء والأغنياء والأباطرة والمفكِّرين والفلاسفة ولكنّه يتجاهل الفقراء .. يتجاهل الذين يحيون حياة تبدو من الخارج اعتياديّة .. يتجاهل الذين لا يلتفت إليهم أحد. أمام مريم، انقلب التاريخ، إذ توقّف أمام الفتاة الفقيرة التي تحمل لنا غنى العالم أجمع. ومن تلك اللّحظة بدأ التاريخ يلتفت إلى المزدرى وغير الموجود ليضعه على منارة التاريخ ليشهد أنّ هناك مسارًا جديدًا في الوجود. بدأت المسيرة من قلبٍ غَمَرَه الحبّ وغطَّى كلّ شقاء الفقر المرتسم على المُحَيّا. لذا، قد لا نمتلك القدرة على تغيير معادلة الفقر / الغنى في حياتنا، إلاّ أنّ الشقاء والفرح دائمًا بأيدينا. فالقلب الآمن في الحبّ يَتَغَلَّب على شقاء الفقر ويَصْرَعه، ويُرْسِلُ بَسْمَةً على الوجه يذوب أمامها كلّ مرتحلٍ مُتَعَطِّشٍ للحقيقة بين دروب الحياة.
حينما ننظر إلى مريم والدة الإله، فإذ بنا ننظر إلى السماء، إذ هي السماءُ الثانيةُ مع أنّها كائنةٌ على الأرض،[18] فسماؤنا توجد حيث إلهنا كائنٌ. لذا هي بابُ السماء[19] الذي كان موصدًا بالحاجز بين الإنسان والله من بعد السقوط. يا لها من تعبيراتٍ وَصَّفَ بها المُسَبِّح تلك الحالة الفريدة والتي يعجز الإنسان أنْ يُلِمَّ بها بين ثنايا عقله الضيّقة. إنَّ كل تلك الأوصاف تحْمِلُ الرجاءَ لكلّ مَنْ كانت ظروفه الحياتيّة بائسة. إنّ هناك مجدٌ من نوعٍ آخرَ مُذْخَرٌ لكلّ مَنْ آمن وخضع لتدبير السّيّد، كما العذراء.
في العالم، ينظرُ المَرْءُ للطفل ليرى مدى مشابهته لأُمّه، إلاّ أنّنا حينما نتأمَّل في وجه العذراء نرى فيه يسوع .. ابنها .. المثال الكامل لكلّ الخليقة .. الصورة الحقيقة والنموذج الأصلي لكلّ بني آدم. لذا، فإنّ أيقونة والدة الإله، صارت موضعَ تأمُّل للعديدين إذ أنّ هناك خيطًا يَرْبطُ وجه السيّد الجالس في أحضان العذراء كطفلٍ ملكيّ، وبين وجه العذراء الأم والعبدة بآنٍ معًا.[20] إنّه خيط الصورة الإلهيّة التي لمَعَت بإشراقةٍ من النّعمة على تلك التي صارت مملوءة من النعمة الإلهيّة.[21] أليست القداسة، هي أولاً وقبل كلّ شيء، استعادة وتحقيق للصورة الإلهيّة والْتِماع بالنعمة التي تستريح في القلوب التي أماتت ذاتها ليحيّا المسيح فيها؟ إلاّ أنّ هذا الأمر يتطلَّب إيمانًا وحياة مليئة بأعمالٍ جادّةٍ تَشْهَدُ لِصدْق هذا الإيمان.
لذا فإنّ مريم لم تؤمن فقط، ولكنّها قدّمت ذاتها وحياتها وجسدها ليأتي الابن الأزلي مُتَجَسِّدًا. كلّ حياتها كانت شهادةً لدفقة الإيمان الأولى الممسوحة بخضوعِ الرجاء والتي أجابت بها على الملاك: ”هوذا أنا أَمَةُ الربّ، ليَكُن لي كقولك.“[22] لم يكن إيمان مريم من النوع النظري، فقد كانت تحيا وتكافح كأيّة فتاة في الحياة، وتعاني من ضغوطات الحياة. إلاّ أنّ الإيمان كان قوّة الدفع الذي يجعلها ترى الأمور بمنظورٍ آخرٍ، لذا فإنّ أحشائها التي التهبت[23] أمام مشهد ابنها المُسَاقُ إلى الذّبحِ والمُسَمَّرُ على الصليب لم تمنعها من أن تقبل بإيمانٍ وخضوع تلك الضريبة الأموميّة التي عليها أن تقدّمها من أجل تحقُّق تدبير خلاص العالم. لقد جاهدت ليل نهار لتكون آنية مسرّةٍ لسُكْنَى السرّ وإطلاقه للعالم مهما كلّفها الأمر. إنّ الإيمان مُكلِّف. إنّه حياة طاعة وخضوع ومسيرة بعيدًا عن المعتاد والآمن، وهو الأمر الذي يتطلّب صلاةً وصومًا حتى يمكن للإنسان أن تنفتح بصيرته على دائرة الإيمان وآلية عمله وطبيعة ملكوت السّيِّد، ومن ثمّ يتحرّك بأمان الثقة فيمن بيده دفّة الأمور. كانت تلك هي حياة مريم؛ صومٌ وصلاةٌ واتّصالٌ دائم بالله بالرغم من الوجود في العالم كأي فتاةٍ من جيلها. إلاّ أنّها ركّزت كلّ جهودها فقط وحياتها اللاّحقة للبشارة في صوت الملاك الذي بشّرها بفرحٍ آتٍ إلى العالم، وكان هذا يكفيها.[24] ذاك الواحد الذي به كلّ الأشياء. قبلت بفرحٍ أن تكون أمَةٌ لذلك السيّد مع أنّها ستكون الأُم لابن الله!
إنّ الأمَةَ تستشعر بالولاء للسيّد وأنّ المِلْكيَّة الحقيقية هي للسيّد. هكذا تعاملت مريم مع البُشْرَى، وكأنّ لسان حالها يقول: ”أنا له، ليصنع مسرّته، وفي تلك مسرتي“. الكثيرون لا يستعذبون لغة الخضوع بمفردات مثل العبد أو الأَمَة وغيرها. إنّ تلك المفردات لا تعني انتزاع الحريّة، ولكن، في دائرة الحبّ الإلهي، فإنّ المرء يُقَدِّم ”مشورات حريته“[25] لمَنْ يَثِقُ فيه، مُعْلِنًا أنّه وحده القادر أنْ يقود المسيرة في الاتّجاه الصحيح.
مرةٌ أخرى، إنّ هذا الأمر يتطلّب إيمانًا ..
مريمُ من هذا النوع الفائق من الإيمان. حينما لاحت البُشْرَى في الأُفُقِ أنّها وهي المخلوقة ستَلِدُ – جسديًّا - خالق الكلّ،[26] آمنت. هذا الإيمانُ ليس هَرَبًا من الفهم، ولكن، لأنّ السرّ العجيب[27] المُعْلَنُ في تلك اللّحظات المقدّسة أَبْعَدُ من مدارات العقل بكثير، فإنّ الإيمان يكون هو ردّ الفعل الإيجابي الوحيد أمام تلك الحقائق الفوق-عقلية. إنّ حضور الخالق متجسِّدًا في حَشَا المخلوق، وإرضاع المخلوق لعائلَ كُلِّ أحدٍ،[28] ورعاية المخلوق للطفل الإله وهو متربِّعٌ على حِجْرِ مريم، ذاك المتربِّع على عرش الوجود، والذي تُسَبِّحه الملائكة،[29] لا يحتاج إلى عقلٍ بقدر ما يحتاج إلى خضوع الإيمان.
ليس كلّ ما هو فوق العقل هو ضدُّ للعقل. يجب أن نترك مساحة للحيرة المقدّسة والتي فيها ننحني عقليًّا أمام سرٍّ، وخاصَّةً حينما نتحدّث عن حدث مجيء الله إلى العالم. كلّ الحدث مغمور في مياه السرّ مهما حاولنا أن نُفَتِّش. علينا أن نَتّضِع أمام الحقائق التي تفوق مفردات القدرة العقليّة، وتتجاوز حركة خلايا المخ لتصوير المعنى. ولكن هل هذا مقبول؟
علينا أن ننتبه إلى أنّه في الحياة التي نحياها تبدو الكثير من الأمور غير مفهومة بالحسابات العقليّة الضيقة إلاّ أنّها صارت مقبولة حينما تكرّرت. فالحبّ، على سبيل المثال، يُفَسِّر لنا الكثير من المتضادات في الحياة. فالأم قد تبكي من الفرح يوم تخرُّج ابنها من الجامعة. البكاء والفرح يبدو أنهما متناقضان إلاّ أنّ إدراكنا لحبّ الأم الفائق لابنها وهو يتحرّك بنجاحٍ في الحياة يُفَسِّرُ لنا هذا الأمر. الموتُ من أجل مَنْ نُحِبُ هو نوعٌ من الأمور التي تبدو مُحَيِّرة للعقل، إذ أنّ غريزة حبّ البقاء أقوى غريزة في الإنسان، إلاّ أنّ الحبّ يعيد ترتيب تلك الغرائز من جديد بشكلٍ يبدو مُحَيِّرًا. لذا فإنّ حبَّ الله الذي دَفَعَ به أنْ يأتي إلى عالمنا بتلك الطريقة بالفعل مُحَيِّر ويصعب تفسيره من دون الحبّ. إنّه سرٌّ وسيبقى سرًّا دائمًا، كما أنّ اجتماع أمومة مريم وبتوليتها[30] سرٌّ خاص لا يمكننا أنْ نُحَلِّلَه بالعقل.[31]
لقد دَوَّن المُسَبِّح تلك الأمور التي تبدو مُحَيِّرة إذ كتب: ”الكائن قبل الدهور، أتي وتجسّد منك، عتيق الأيام خرج من بطنك.“[32] بالطبع نستشعر نبرات التعجّب من هذا الإعلان المُحَيِّر. إنّه السرّ. إنّ دخول الله إلى عالم الإنسان كان محتجبًا في سرٍّ، علينا أن نحترمه، وألاَّ نحاول أنْ نُعْمِلُ آلياتَ عقليّةٍ في حقيقةٍ استثنائيّةٍ بهذا القدر. إنّ اتحاد الطبيعتيْن في حَشَا العذراء سِرٌّ، إذ أنّ المُسَبِّحُ رأى في مريم مَعْمَلاً أتت فيه الطبائع معًا بغير اختلاطٍ.[33] هذا السرّ يدفعنا إلى الصمت، ليس تعاميًا عن الحقيقة، ولكن إدراكًا أنّ السّر يُسَبَّح في صمتٍ، وفي التسبيح تُعَاين النفس، الحقيقة، بالروح.[34]
لقد تَهَلَّل المُسَبِّحُ مجددًا من فرط الدَّهشة وصرخ: ”غير المنظور، غير المحدود، ولدته مريم، وهي عذراء.“[35] إنّه يصرخ فينا: هلاّ توقفتم أمام تلك الأعجوبة الفريدة؟ ألا تستحق بضعة دقائق من التسبيح كلّ يوم؟