إنجيل الرب يسوع

في محاضرة ألقاها أحد أساتذة العهد الجديد في جامعة سانت أندروز في اسكتلندا، أعلن فيها المحاضر أنّ هناك تغيُّرًا كبيرًا في قراءتنا للكتاب المقدَّس الآن عن كلّ الأزمنة الماضية. للوهلة الأولى توقّعت أن يكون السبب إمّا تقويًّا وإمّا ثقافيًّا ولكن ما فاجأني هو أنّ السبب تكنولوجي! نعم؛ فالتكنولوجيا الحديثة جعلتنا نقتني برامج خاصّة بالكتاب المقدَّس تتيح لنا القراءة المقارنة لعدد هائل من النصوص الأصليّة جنبًا إلى جنب مع الترجمات المختلفة عبر العصور. في العصر الحالي يمكننا قراءة العدد الكتابي الواحد بعشرات اللّغات، ومن عشرات المخطوطات في الوقت عينه. أثّر هذا بكلّ تأكيد على تصوراتنا وأفكارنا الكتابيّة بشكل كبير. في الماضي كان الكتّاب إمّا يقرأ في نسخة واحدة فقط وفي ترجمة واحدة فقط في الكنيسة، وإمّا يقتني المسيحي مخطوطًا لسفر أو أكثر أو، نادرًا، الكتاب المقدَّس كلّه (بسبب صعوبة عمل النساخة وتكلفتها)، إن استثنينا الباحثين الكبار. إنّ القراءة المقارنة المعاصرة لها إيجابيات بكلّ تأكيد من جهة موثوقيّة النصّ والفهم الأدق للغة النصّ، ولكنّه في الوقت ذاته تحمل مخاطرة الانهماك في النصّ أكثر من عيشه وطاعته بجديّة!

إنّ العصر الذي نحياه الآن هو عصر المعلومة المباشرة والسريعة، عصر الرقمنة والاتصالات فائقة السرعة والاكتشافات والإنجازات العلميّة التي تتزايد بشكل مطرد، وهو ما يفوق المنجزات الإنسانيّة في كلّ عصور الحضارات الإنسانيّة جميعًا بمراحل. في ظلّ الثورة الثقافيّة الهائلة والتي تعيد تشكيل الأرض تحت أقدامنا، يتم إعادة تشكيل الأفكار والمفاهيم والتصورات التي اعتقدناها آمنة بمنأى عن التغيُّر، ممّا سبب للكثيرين طعنة وجوديّة وفكريّة، وآل بالبعض إلى تقييم القيم، لا المفاهيم فحسب، ورسا البعض على شاطئ ما بعد الحداثة postmodernism النسبي، فإذا به ليس شاطئًا، ولكن جزيرة محاطة بالمياه من كلّ جانب! إنّ الافتقار إلى اليقين هو سمة هذا العصر، وبالتالي تأتي ردّة الفعل المقابلة له؛ أي البحث الجنوني، وأحيانًا المتطرِّف عن يقين، ولو كان هذا اليقين زائفًا! يقف هذا التيار على تلك الأرضيّة الرخوة من اليقين الزائف، ويتمسَّك به كقشّة أخيرة وسط تيارات النسبيّة الجامحة الجانحة.

في إطار هذا التمزّق الذي يعاني منه الإنسان ما بين النسبيّة المطلقة والمطلق الخاطئ، تأتي مسؤوليّة الكنيسة، في هذا الوقت الحَرِج من التاريخ الإنساني، كبيرة للغاية. من السهل أن نقف في مكاننا وألا نحاول أن نعلن رسالة إنجيل واقعيّة وصادقة وآمنة وأمينة للإنسان الحداثي / ما بعد الحداثي، ولكن النتيجة ستكون كارثية، إذ سيتساقط الشباب من الأجيال الجديدة والذي لا يعرف سوى لغة المنطق الإنساني، وتساؤلات ما بعد الحداثة، ومفردات العلم التجريبي. نعم، من السهل أن نصمت خوفًا وهلعًا من الولوج في هذا المضمار الشرس والمحفوف بالمخاطر، ولكن سيكون صمتنا بمثابة مشاهدة جمهور كبير من البشر يغرق في البحر دون التدخُّل لإنقاذهم خوفًا من الأمواج العاتية وخوفًا على تلك الحفنة من البشر الذين يحيون حولنا على الشطّ؛ إذ لا يستوعبون أسرار البحار وقوانينها!

لم يكن الإنجيل يومًا إعلانًا تحت مكيال، ولم يكن يومًا صوتًا هامسًا في الأروقة الخلفيّة، ولم يكن يومًا نورًا يهدي الآمنين على الطرق الجانبيّة فقط. الإنجيل منذ أطلق يسوع بشارته وهو كلمة مدويّة. لطالما اشتبك مع الواقع لتغييره للأفضل. لم يكن الأفضل هو الأكثر أمنًا، بل في معظم الأحوال كان هو الأقل أمنًا، ولكن الأفضل كان - ولا يزال - الأكثر اتساقًا مع طبيعة الله ودعوته النهائيّة. لطالما كان الإنجيل بوقًا ينبّه الناعسين إلى ضرورة اليقظة. ليست اليقظة بمعناها الحرفي فقط، ولكن اليقظة لتقديم إنجيل حيّ يحيطنا بدائرة اليقين في وسط عالم نسبي. واليقين هنا ليس تلك الفورة من الثورات الكلاميّة ولا الانفعالات العاطفيّة من جهة حبّنا لكلمة الله والإخلاص لها، ولكن اليقين هو يقين تدخُّل الله الفاعل الآن في واقع كلّ إنسان وأي إنسان دون أن يفقد الإنجيل بريقه الذي من ضياء الأبديّة.

إنجيل يسوع واقعي اليوم. ليس هو إنجيل المنسحقين والمأسورين منذ آلاف السنوات ولكنّه إنجيل ”الآن“ للمسلوبي الحقوق في الدول القمعيّة. هو إنجيل الباحثين عن عقار جديد لخدمة الجسد الإنساني وهم يتأرجحون بين أخلاقيّة البحث من عدمه. هو إنجيل الفيزيائيين الذي يضعون نظريات في طبيعة الكون. هو إنجيل الأركيولوجيين الذين يحاولون استجماع عناصر التاريخ من حفريات الماضي. هو إنجيل النساء الباحثات عن فرصة للإنجاب وهن يقرعن أبواب الطبّ الحديث. هو إنجيل الفتيات اللاتي تأخّر بهن سن الزواج في وسط مجتمع يقيّم المرأة بزواجها. هو إنجيل العجائز الذين يعانون من وحدة مطبقة وسط جحود الأبناء. هو إنجيل سكّان العشوائيات المهملين والمهمّشين من المجتمع. هو إنجيل الذين في السجون، وهم يحلمون بغدٍ أفضل لتصحيح أخطاء الماضي. هو إنجيل الرهبان الباحثين عن دروب القداسة كما حلموا بها منذ كانوا صغارًا. هو إنجيل الآباء والأمهات الذين فقدوا أولادهم في سن مبكِّر، والذين رزقوا بأطفال معاقين. هو إنجيل التجَّار الذين يبحثون عن أخلاقيات المكسب. هو إنجيل الذين يقفون في ردهات المستشفيات بلا قدرة على التدخُّل لإنقاذ عزيزٍ لديهم، ويتمزقون بين ما يرونه من ألم ومعاناة وما بين الرجاء في معجزة خارقة. هو إنجيل أولئك الذين انتهكت سمعتهم ظلمًا. هو إنجيل الشحاذين على قارعة الطريق الذين يستجدون العابرين. وهو إنجيل العطّائين الحائرين في العطاء الأمثل. هو إنجيل العمَّال المحاطين بمناخ لا أخلاقي لا يعرف سوى السباب والإهانة. هو إنجيل المُهَجَّرين من بيوتهم وأوطانهم في ظل الجشع السلطوي الدموي لقادة جيوش وجماعات بربريّة. وهو إنجيل الذين هم في منصب والذين يقعون فريسة اختيارات متباينة لا أخلاقيّة، وعليهم أن يتّخذوا قرارًا بالأقل كُلفة أخلاقيّة. هو إنجيل الجنود في ساحات القتال والذين يتساءلون ألف مرّة عن أخلاقيّة ما يقومون به. هو إنجيل اللاّهوتيين والباحثين والذين يخاطرون بمكانتهم وسمعتهم وسط الجماعة الدينيّة في اجتهادهم الجاد والمتضع لكي تصل الرّسالة إلى كلّ إنسان حيّة بقوّتها الدافعة الأولى. هو إنجيل الباحثين في أروقة أماكن الصلاة والتجمعات الدينية عن حقيقة وخبرة وتلامس مع ذاك الذي يسمعون عنه من على المنابر. هو إنجيل الجميع في واقعهم وحيرتهم وألمهم وبُعدهم. هو القادر أن يصل إلى تلك الأماكن من الوجع والحيرة البشريّة التي لا يصل إليها إنسان!إنّ كلّ محاولة لفصل إنجيل يسوع عن الواقع الإنساني المُمَزَّق هو خيانة لندائه الأوّل الذي ما برح يفصل بين النور والظلمة. لا يتوافق إنجيله مع الظلمة، ولا يسايسها، ولا يخشاها، ولا يصمت ليأمن أمام إطلالتها السوداء، ولا يتملّقها اجتنابًا لشرها، ولا يضع يده في يدها، ولا يسايرها على بعضٍ من طريق، ولا يراها حكمة ضروريّة يفرضها واقع المجتمع الإنساني، ولا يتقبّل منها رشاوى الإبقاء على بعضٍ من نور في مكانٍ، في مقابل انتزاع النور من موضعٍ آخر.الإنجيل حقٌّ لم يعد يألفه الكثيرون اليوم، وإن كانوا ينادون بمفرداته ليل نهار من على المنابر! مصداقيّة إنجيل يسوع ليست في المبحث التاريخي ولا النصي ولا النبوي. كلاّ! مصداقية إنجيل يسوع تكمن في قوّة الإعلان والثقة به عكس كلّ ما يبدو كبيرًا أو مخيفًا أو مهدِّدًا في أعيننا. أن نُصَدِّقه كلّه يعني أن نطيعه كلّه، وأن نطيعه كلّه يعني أننا نؤمن أنّ الكلمة صادقة وحقيقيّة وحيّة وفاعلة وقادرة على زرع قياسات إلهيّة صالحة للعمل بها في التربة الإنسانيّة.نهادن الظلمة حينما نقبل من الإنجيل ما هو ممكن لنا، أو آمن لنا، ونتجاهل باقي النداء والدعوة! الإنجيل يعمل كلّه، ولن يثمر حياة فيمن أراد طوعًا أن يشذبّه ليوافق ذاته حتى لا يدفعه لخسارة ما يراه ربحًا من جهة المركز، الشعبيّة، المال، القيمة في أعين من حوله! إنجيل يسوع لا يمكن أن يكون ماركيونيًّا[1].  

إنّ البعض يرفض حقّ الإنجيل الكامل حتى يأمن للتاريخ ألاّ يجور عليه بعد رحيله! ولكن، ليس التاريخ عاكسًا لحقّ الإنجيل في كلّ الأوقات. في الوقت الذي يرى فيه التاريخ اليهودي عبر العصور يسوع وبولس منشقين عن الجماعة اليهوديّة، وأنهما بمثابة أخطر الهراطقة في التاريخ اليهودي، يرى التاريخ العام أنّ يسوع وبولس شخصيتان ذات أثرٍ في التاريخ الإنساني كغيرهم من العظماء، ويرى التاريخ المسيحي أنّ يسوع هو سيِّد التاريخ وبولس حلقة ذهبيّة من حلقات التاريخ. هناك عدّة مسارات للتاريخ بحسب الجماعة التي يدوَّن فيها ويدوَّن لها التاريخ، ولكن التاريخ على كلّ حال هو ظاهرة إنسانيّة، فهو يُدَوَّن بأقلام بشرٍ وأفكار بشرٍ ونزعات بشرٍ، وينتشر بعلاقات بشرٍ وبانتصارات بشرٍ .. إلخ! تاريخنا الحقيقي هو ”سفر الحياة“ والذي يقيس مسيرتنا على حقّ الإنجيل حتى وإن قلب التاريخ البشري الحقائق ووضع الظالم على كراسي الحق، والمظلوم في سجون الإدانة. لقد تنهّد القديس بولس بقوّة الحقّ حينما أعلن ”وَأَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ، أَوْ مِنْ يَوْمِ بشَرٍ“ (1كو4: 3). الإنجيل يحرّرنا من نظرة التاريخ المنحاز والمشوَّه ليرفعنا إلى الواقع الأبدي. من يحيا في الروح هو القادر أن يرى الأمور من منظور الحقّ الأبدي، ومن ثمّ يستطيع أن يميّز الحقّ وإن كان للتاريخ شأنٌ آخر. ومن ثمّ لا يمكن لمعيار تاريخي إنساني أن يكون هو الحكم الفصل على الحقّ الإلهي (انظر: 1كو2: 15). لسنا أولاد التاريخ ولكن أولاد الحياة الجديدة. دعوة يسوع في الإنجيل أن نكون فيه يعني أن نكون حتى الآن مرفوضين من أقلام تاريخيّة عديدة عبر العصور، كما هو، ولكن لنا قبولاً فيه لدى الآب لحياة للأمام.

 

الكنيسة في إعلانها حقّ الإنجيل ليست ابنة التاريخ وتقلباته. لا تخشاه، ولا تتشكّل به، ولكنّها تسعى لتشكيله ليكون إشارة لواقع آخر وقيم أخرى ومعنى آخر أبعد من التاريخ. من هنا تأتي المسؤوليّة على الكنيسة أن تكون أيقونة شفافة يمكن للإنسانيّة من خلالها التواصل مع يسوع.

 

ولكي تقوم الكنيسة بدورها على أكمل وجه، من الضروري أن تكون حيّة بقوّة إنجيل الخلاص، وواعيّة في نفس الوقت بالتغيرات الثقافيّة في الوعي الإنساني الجمعي من حولها. هذا الوعي يُمَكِّنها من تقديم ذات الرسالة الحيّة والمحيية لإنسانٍ قد يقف على فرضيات وتصوّرات مختلفة عن السابق.[2] 

 

حينما كتب الإنجيليون بشاراتهم مسوقين بالروح القدس كانوا يقبلون توجيه الروح لهم لينظروا إلى المتلقّي، فجاءت ريشتهم حاملة للرسالة الواحدة على متونٍ من المفردات الثقافيّة المتباينة حتى يصل إنجيل الحياة الجديدة إلى كلّ إنسان في المنطقة التي يقف فيها. لقد استخدموا لغة يونانيّة مألوفة لدى الجميع آنذاك، ولكن بنسق خاص في كلّ إنجيل يعكس المنظور الذي يريد كلّ إنجيلي أن يُقَدِّمه للقارئ الأوَّل الذي أُرسلت له البشارة. هذا التنوّع في تقديم الرسالة الواحدة يبكِّتنا إن حاولنا ألاّ نصل إلى أماكن عديدة في مناطق ثقافيّة نائيّة بإنجيل الحريّة. الاكتفاء بالمألوف لدينا يعني تحويل بوق الإنجيل المدوّي على جبل التاريخ البشري لكلّ إنسان، إلى بوقٍ داخلي في غرفة واحدة بها بعض الأفراد ذوي الثقافة والفكر المشترك! ليست تلك هي ندءات يسوع في إنجيله! فلقد أطلق إرسالية قبيل صعوده إلى أقاصي الأرض. ليست أقاصي الأرض هنا تعني الجغرافيا فقط، ولكنها الأقاصي الفكريّة والثقافيّة والتي تتطلّب من الكنيسة أن تجتهد في تقديم الرسالة بمفردات يمكن للإدراك في تلك المناطق الثقافيّة المتباينة أن يستوعبها ليتفاعل معها.

 

”لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً“؛ تلك هي دعوة وصلاة بولس (كو3: 16). إنّ كلمة الإنجيل ليست قوالب من المفردت والتي إن أتقنّا حفظها في الذاكرة وترديدها لمن حولنا كنّا من سكّان الإنجيل! كلا، مَنْ يَسْكُن في الكلمة ويُسْكِنْهَا قلبه هو من يستشعر إلحاحها بالقيام من ركود الكسل ورقاد المألوف إلى البحث والصلاة ليحياها وليقدِّمها حيّة لكلّ إنسان. تسكن الكلمة بغنى في كلّ قلب تأهّب للانطلاق والمغامرة ليستوعب رسالة الإنجيل ومن ثم يؤوِّلها لتكون مرتبطة بواقع مَنْ حوله كرسالة لم يعف عليها الزمن.

   


[1] حاول ماركيون Marcion في القرن الثاني الميلاي أن يختزل الإنجيل إلى نصٍّ يراه موافقًا لأفكاره المسبقة عن الله؛ فآل به الأمر إلى رفض العهد القديم وكلّ النصوص التي تتعلّق به من العهد الجديد، لذا نجده استبعد معظم الأناجيل مع الاكتفاء بأجزاء من إنجيل لوقا مع بعض الرسائل للقديس بولس (10 رسائل).

[2] بالتأكيد شرح الإفخارستيا في العالم القديم والذي كانت فيه المادّة بحسب التعريف العلمي هي عرض وجوهر، سيختلف عن شرحها في عالم يعرف المادّة بأنّها جزيئات تتكون من ذرات بها بروتونات وإلكترونات ونيوترونات. الحضور الإفخارستي الحقيقي في المادة المخلوقة كما هو، ولكن شرح هذا الحضور للمنطق الإنساني يجب أن يراعي النمو العلمي والمعرفي، ومن ثمّ يقدّم الحقّ ذاته بمفردات يستطيع أن يستوعبها العالم المعاصر. ما دون ذلك هو خيانة لحقّ الإنجيل الذي لا يمكن أن يكون أسير جدران زمن معرفي واحد، ولا إطار  ثقافي دون الآخر. الإنجيل يحلّق فوق هذا ويلقي بأشعته والتي يجب علينا أن نكون فطنين في فتح النوافذ الصحيحة لها؛ لئلا يجدّف على الاسم الحسن بسبب تخاذلنا وتكاسلنا وانهماكنا في تأمين ذواتنا على حساب ضرورة إعلان إنجيل الحياة.